رواية «اختفاء السيد لا أحد» شخصيات في مدار الواقعية السحرية العربية
15-كانون الثاني-2023
بغداد ـ العالم
يشتغل الكاتب الجزائري أحمد طيباوي، محطات تذويب وإعادة ترميم الهوية العربية، من خلال شخصيات شبحية، تمارس الهروب من الواقع، بظهور لحظي، ومن ثم الاختفاء خلف الكواليس، في روايته ”اختفاء السيد لا أحد“، الصادرة عن داري ضفاف والاختلاف بالتشارك، والفائزة بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية 2021.
تدور تفاصيل الرواية السوداوية، حول الشخصية الوهمية الممسوخة في المجتمع العربي، وفي أي مكان في العالم، يتعرض الإنسان فيه للتهميش والمحو.
ويتناول القسم الأول من السرد حياة شخص مُلغى من الحياة، يغرق في عزلة حادة، تمنع وصوله للناس، لدوافع كثيرة، من أهمها الخوف وعدم الاكتراث لكل ما يحدث حوله، وتجبره الظروف في موقف ما، على الاعتناء برجل عجوز كثير الفضول، ويداوم على طرح الأسئلة العالقة، إلا أن موت العجوز يكون سببا في نقل مسار دراما العمل إلى مساحة أخرى، باختفاء الشاب، ويبدأ المحقق رفيق في رحلة البحث عن السيد لا أحد، متعقبا الآثار التي تخصه، للكشف عن هويته، بحوارات مع شخصيات أخرى تأتي تباعا.
لكن الكاتب طيباوي يزيد من تشبيك الخيوط، بتسليط الضوء على شخصية المحقق رفيق، حيث يعود إلى مشاهد قديمة في حياته الشخصية، تمثل فترة من زواجه الأول، ومشاكل متعلقة بالإنجاب، وتكون المفاجأة أيضا بأن يختفي في نهاية المطاف، لمجرد معرفته بأن زوجته الثانية تحمل جنينا منه.
رحلة هروب جديدة يضعها الكاتب بين أروقة السرد، ويجعل من النهاية المنجرفة لنفس المصير، طاولة للحوار حول مصير الشخصية الإنسانية العربية، في ظل القيود الاجتماعية على الحريات، وعدم تقبل ثقافة الاختلاف، وكذلك تدني جودة الحياة في معظم المجتمعات العربية، فلم يختلف مصير شخصية ”عثمان“ عن مصير شخصية ”القناع“، فعثمان المثقف الثائر الذي كان يمتلك رؤية ثاقبة داخل مجتمع مكتظ بالأقفاص، كان مصيره سوداويا، لكثرة ما قمع المجتمع بصيرته، انتهى إلى الضياع أخيرا.
أما ”البياع“ فاتخذ في بداية حياته، شعارات الإسلام السياسي عنوانا له، لكن السجون حولته إلى كائن ممسوخ، وصار يبيع الكرامة بالثمن البخس. وكذلك كانت شخصية مبارك ضحية لرغبة ذات دون نقص، فسقط في فخ طلب الكمال.
ويلاحظ دعم طيباوي لمشروعه السردي الكافكاوي، بصور حية من الشارع العربي، إذ يوصف الأماكن المهمشة، ومكبات النفايات، والحياة الممسوخة لفئة كبيرة من الناس، ويضع فكرة الخلاص من الألم، كحدث جميل، في وعي عامل النظافة.
وبهذه التناقضية الفكرية يهدف الكاتب إلى جلد الذات العربية الصامتة، واستخراج صوتها.
فيما تأخذنا الدراما المشغولة بواسطة طيباوي، إلى مناطق غائرة في تحليل الذات، عبر المحاكاة المتواصلة التي تفضح المخبأ السري الذي نخفيه عن الجميع، من باب الادعاء بأننا على ما يرام، لكن طيباوي يجرح بالمشرط السردي مكانا حيويا في الذهن، عبر الاستثارة والتنقيب عن ”مجسات“ الوعي، ملامسا كل قارئ بأصوات سردية مصنوعة بخبرة.
كما واعتمد الكاتب مهارات الصناعة السردية في تطويع الأحداث، حيث بدأ استعراضه بكشف شخصية غارقة في الفوضى، معطيا إشارات لمناخ الرواية فيما بعد، وجمع بين جيلين من خلال العجوز والشاب، وجعل مادة الحوار بينهما، كـ ”فاترينة“ تعرض عينة لما في الداخل.
لكن التحول السردي في الشق الثاني من الرواية، بتقنية فلاش باك، حول حياة المحقق، المكلف بالكشف عن الشخصية المختفية، يوصل إلى أن هنالك طابورا من الشخصيات الهالكة في التيه، تنازلت عن هويتها، من أجل ضمان البقاء في الصبغة الاجتماعية الدارجة.
ويتمكن طيباوي، من تركيب أسلوبية ماكرة في سرده، حيث اعتمد دوما على ثيمة الشيء المفقود، والغامض في الشخصية والحدث، فالكثير من التفصيلات يضعها في طريق القارئ، تمتلك مهارة الإثارة، لكنها تبقي المتلقي معلقا مع خيطها، لكن طيباوي بدوره المتحكم بالسرد، ينقل الصراع الفكري إلى خيط روائي آخر، لكنه في الآخر، يعمد إلى تجميع قصص الشخصيات في قناة تخدم طابعه السردي، فيما جاءت لغة الكاتب محملة بالفنيات اللغوية الخصبة، والتلميحات التي تفتح الباب للتأويل والتمعن، وتم صياغتها بضمير المتكلم، والغائب، حسب إطار المشهد، على مدار 120 صفحة من القطع المتوسط.
ويمكن التقاط صورة خلفية، تكشف عن الوجه الآخر للأجسام في العمل، تُخلصنا إلى نتيجة أن الشخصيات جميعها ضحايا للضغط الاجتماعي، وبأن كل واحد منهم بمفعول الزمن يفقد بوصلته، في السياق الاجتماعي العربي، فيصير كل شخص كأنه ذرة غبار يحملها الهواء، ليضعها في عين الآخر.
وكنتيجة للمناخ المحمل بالتراب، يصاب الجميع أخيرا بغبش في العين، وهو ما يفقدهم القدرة على الرؤية السليمة، والبحث عن الهوية الأصل، وبالتالي يعيش المرء ومن حوله أشباح كثيرة، لربما كل شخصية منهم بشبحيتها، وتخفيها، ومسخها، تمثل ”السيد لا أحد“.
ومن أجواء الرواية: ”خدمت هذا الجثمان خدمة جليلة، وللأسف لن يستطيع رد الجميل بإسداء أي نصيحة مهما كانت تافهة. اشتقت لخالتي التي ماتت هي الأخرى وتركتني، كان وجودها يسد أبواب الجحيم كلها، أنا مقصر في زيارة قبور من أحبوني بلا حدود وكان عليهم أن يموتوا بسبب ذلك، في خاطري أن أعود من حيث أتيت حقا، بقية العقل التي هربت بها لأواجه جنون العالم من حولي نفدت، ولم تعد غنيمة تستحق العناء“.