رواية «الشمس تشرق أيضا»: وداعا مصارع الثيران المقدس
31-آب-2022
محمد سالم عبادة
تّمُّوزُ شهرُ همنغواي بالتأكيد، ففيه وُلِد (21 تمّوز 1899م) وفيه رحل (2 تمّوز 1961)، وهو كذلك شهرُ المهرجان السنويّ الأكبرِ عالميًّا لمصارعة الثّيران، حيث يُعقَدُ مهرجان سان فِرمِين كلّ عامٍ بين يومَي 6 و14 تمّوز في مدينةِ (بـامـبـلونا) بإقليم الباسك قريبا من الحدود الفرنسية الإسبانيّة، وهو الحدَث المركزيُّ في روايتِه الأولى هذه الصادرة عام 1926.
تدور الأحداثُ بلسان الرّاوي – وهو أحدُ الأبطال في الوقت ذاتِه - جـاك (جـاكوب) بارنز، الصحافيّ والكاتب الأمريكيّ الذي يعمل في مكتب إحدى الجرائدِ في بـاريس وسط مجتمَعٍ من الكُتّاب الأمريكيين المغترِبين. نعرفُ أنّ بارنز يحبّ سيّدة إنـﮕـليزية هي (بْرِتْ) مُوشكةً على الحصول على الطلاق من زوجِها الأرستقراطيّ، وأنّ علاقتهما مرتبكةٌ بسبب فُقدانِه القدرةَ على ممارسة العلاقة الحميمة نتيجةَ إصابةٍ غامضةٍ تعرّضَ لها خلالَ مشاركتِه في الحرب العالميّة الأولى في الجبهة الإيطاليّة.
في الوقتِ ذاتِه يُفترَض أنّ (برِتْ) تخطط للارتباط بمايكل (مايك) السِّكِّير الاسكتلنديّ الغارق في الدُّيون بمجرّد حصولها على الطلاق. يعرّفُ بارنز صديقتَه القديمةَ برِتْ إلى صديقَيه (بِل) الساخر اللاذع و(روبرت كون/ كوهين) الكاتب الأمريكيّ اليهوديّ المتحفّظ في علاقاتِه.
يخطط الجميعُ للرحيل من بـاريس إلى بـامـبـلونا لحضور المهرجان بناءً على اقتراح جـِاك. ويقع (كون) في غرام (برِتْ) ويلحَقُ بها هي و(مايك) في مدينة (سان سباستيان) حيثُ يُفترَض أن يقضيَ الحبيبان وقتًا خاصًّا، ويتطوّر الأمرُ إلى علاقةٍ جسديّةٍ بين (كون) و(برِتْ).
وحين يلحق الثلاثة (برِتْ وكون ومايك) بـﭽِـاك وبِلْ في فندقٍ على الطريقِ إلى المهرجان يُظهِرُ مايك أخيرًا سخطَه على (كون) وتطفُّلِه على (برِتْ)، ويتصاعد الشِّقاق إلى مشادّةٍ كلاميّةٍ، وتُظهِرُ (برِتْ) احتقارًا لـ(كون) لكنّها تستاء من انسياقِ مايك إلى إهانتِه على الملأ.
خلال ذلك يحاول (جـاك) طيلةَ الوقتِ أن يهدّئ الأمور بين الأطراف جميعا. وبعد أن يصل الجميعُ إلى ﭘـامـﭙـلونا ويبدأ المهرجان، يُستغرَق كاتبُنا بلسان راويه ﭼِـاك في وصف أحداث إطلاق الثيران وركضِها وتفاصيل المُصارعة في أيامِها المختلفة، وخلالَ ذلك يتعرّفُ ﭼِـاك إلى مُصارعٍ شابٍّ بالغِ التهذيبِ وفائق المهارةِ يُدعى (بـدرو روميرو)، ويُعرّفُه مِن ثَمَّ إلى الرِّفاق.
وتكون المفاجأة أن تقع (برِتْ) في هوى روميرو وتطارحَه الغرام. وما إن يصل الخبر إلى (كون) حتى يهتاجَ تمامًا ويصفَ ﭼِـاك بالقَوّاد ويُوسِعَ روميرو ضربًا في غُرفةِ (برِتْ)، ثُمّ يعود إلى نفسِه بعد فترة غضبٍ وحُزنٍ مريرٍ ويحاول الاعتذار للجميع ثُمّ يرحل عنهم.
هذا بينما يَعرض روميرو الزواج على (برِتْ) بعد جولته الأخيرة في المهرجان، وترفضُ هي لأنها تكبرُه بخمسة عشر عامًا، كما ترفضُ أن تغيّر تصفيفةَ شَعرِها القصير الذي أثارَ سُخريةَ رفاقِ روميرو، لكنّها تُسِرُّ باكيةً إلى ﭼِـاك في النهايةِ بأنها ترفضُ أن تتحوّلَ إلى عاهرةٍ تُفسِدُ المُراهِقين بالزواج من صبيٍّ يَصغُرُها.
* مفتتحُ وعنوانٌ توراتيّان:
يبدو الاقتباسان اللذان صدَّرَ بهما همنغواي روايتَه محرِّضَين على التأمُّل. فالأوّل كلمةُ الأديبة الأمريكيّة المغترِبة في فرنسا (غِرترود شتاين) صاحبة الصالون الأدبيّ الذي كان يحضُرُه كثيرون من جيل همنغوِاي: "إنكم جميعًا جيلٌ ضائع You are all a lost generation".
وبناءً عليه صِيغ اصطلاحُ (الجيل الضائع) الذي يُشارُ به عادةً إلى جيل البالِغِين في فترة الحرب العالميّة الأولى، أولئك الذي فقدوا بوصلتَهم الروحية والاجتماعية تمامًا في أعقاب الحرب، أو أنه يُشيرُ خاصّةً إلى الكُتّاب الأمريكيِّين المُغترِبين في ﭘـاريس في عشرينات القرن الماضي.
والاقتباسُ الثاني هو الآيات (4-7) من الإصحاح الأوَّل من سِفر الجامعة بلسان نبيّ الله سليمان "دَورٌ يمضي ودورٌ يجيء والأرضُ قائمةٌ إلى الأبد. والشمس تشرقُ أيضًا والشمس تغرب ...." إلى قولِه "إلى المكان الذي جَرَت منه الأنهارُ إلى هناك تذهبُ راجعة".
ومن الممكن بالطبع النظرُ إلى الاقتباس الثاني باعتبارِه مجرّد جملةٍ من العهد القديمِ وجدَها كاتبُنا مناسِبةً للدلالةِ على أحداثٍ عبثيّةٍ تَمورُ بها روايتُه، فالمصارعة والعنفُ والقتلُ والبُكاءُ من الحُبِّ ومن الشُّعور بالامتهانِ كلُّها أحداثٌ ستذهبُ لا محالةَ أدراجَ الرِّياح، غيرَ مؤثّرةٍ في أبديّةِ العالَم. إلّا أنّ الأمرَ لا يبدو بهذه البساطة.
في تقديري أنّ هاجسَ الدِّين ليس بالهامشيِّ أبدًا لدى همنغوِاي، وأنّه مُسيطِرٌ على كتابتِه بدرجةٍ لا تقلُّ عن سيطرته على أسلافٍ مثل دوستويفسكي في (الإخوة كارامازوف) و(الجريمة والعِقاب).
في روايتِه الثانية (وداعٌ للسّلاح) التي يتناولُ فيها الفترةَ نفسَها التي أشارَ إليها هنا لِمامًا – أعني فترةَ عملِه سائقَ عربةِ إسعافٍ في الجبهة الإيطاليّة إبّان الحرب الكبرى – يختمُ هنمغوِاي الروايةَ المفعمةَ بمظاهر عبثيّة الحرب بتوسُّلاته الضائعةِ إلى الله أن يُنقِذَ حياةَ الممرّضة الإنـﮕـليزية التي تزوّجَها في النهاية، في تظاهُرةٍ لضَياع الإيمانِ سُدَى.
أمّا روايتُه المتأخرة (العجوز والبحر) فهي مزروعةٌ بالاقتباسات من الكتاب المقدَّس بحيثُ لا تترُكُ فُرصةً للقارئِ ألّا يعتقِد أنّ ملحمةَ سانتياغو الصّيّاد العجوز هي ملحمةُ الإنسان الكادحِ إلى رَبِّه كَدحًا فمُلاقيهِ، حسبَ التعبيرِ القرآنيّ. ولا تَبعُدُ الرواية التي بين أيدينا كثيرًا عن ذلك، وإن كانت إشاراتُها أخفَتَ نَبرةً مِن هاتَين. في الفصل الثاني عشر يسألُ بِل صديقَه ﭼِـاك:
-"أأنتَ حَقًّا كاثوليكيّ؟"
- تقنيًّا!
- ما يعني ذلك؟
- لا أدري.
وباعتبارِ جـاك لسانَ همنغوِاي في الرواية فإنه يعكسُ إيمانَه هو الشخصيّ، فمعروفُ أنّ كاتبَنا قد تحوَّلَ إلى الكاثوليكيّة في شبابِه. وفي الروايةِ يدخلُ الكاتدرائيّة ليصلّي فيقول: "وطيلة الوقت الذي كنتُ راكعًا فيه وجبهتي على الخشَبِ أمامي وأنا أفكّر في نفسي أصلِّي، كنتُ خَجِلًا من نفسي بعضَ الشيءِ، نادمًا على كَوني كاثوليكيًّا غيرَ صالحٍ هكذا، لكني أدركتُ ألّا شيءَ يُمكنُ فعلُه بهذا الخُصوص، على الأقلِّ لبعض الوقتِ، وربّما إلى الأبد، لكنّي أدركتُ أنه على أية حالٍ دينٌ عظيمٌ، وتمنّيتُ أن أشعُرَ بشُعورٍ دينيٍّ فحسبُ، وربما يحدث هذا في المرة القادمة، وبعد ذلك خرجتُ إلى الشمس الحارقة على درَج الكاتدرائيّة، ومازالَت أصابعُ يُمنايَ رَطبةً إلى أن جفَّفَتها الشمس".
وتتكرّر زيارتُه للكنيسة - تحديدًا (سان فِرمين) - مع (برِتْ) التي لم تُطِق البقاء بالداخل وقالَت إنّ المكان يجعلُها عصبيّة. وفي الموضِعَين تكرَّرَ وصفُ داخل الكنيسةِ بالظّلام والرطوبة، وخارجِها بسطوع الشمس والحرارة. فهل يتراسَلُ هذا مع العنوان؟! لنُرجئ ذلك إلى النهاية.
ومن اللافتِ حرصُ ﭼِـاك على أن يُشيرُ لـ(برِتْ) إلى (سان فِرمين) بأنها المكان الذي بدأ منه المهرجان. فهل هي جملةٌ بريئةٌ محايدةٌ أم أنّ هناك علاقةً ما في ذهنِ ﭼِـاك (وفي وعي همنغوِاي) بين مصارعة الثيران والشُّعور الدّيني؟ يتكرر وصفُ الرّاوي لنفسِه باعتباره هاويًا متحمّسًا لمصارعة الثيران Aficionado، وهو الوحيدُ بين رِفاقِه الذي ينطبِق عليه هذا الوصف بمتابعتِه اللصيقةِ للمهرجانات ومعرفتِه الواسعة بتفاصيلِها.
كما تتكرر الإشارةُ إلى الابتسامات الصامتة التي يتبادلُها مع (مونتويا) صاحب الفُندُق: "كان يبتسم دائمًا كما لو كانت مصارعة الثيران سِرًّا خاصًّا جدًّا بيننا، صادمًا نسبيًّا وإن كان عميقًا حَقًّا للغاية. كان يبتسم دائمًا كما لو كان هناك شيءٌ شائنٌ بخصوص هذا السّرّ بالنسبة للأغراب، لكنه شيءٌ يفهمُه كلانا. ولا يصِحُّ أن نكشِفَه لمن لن يفهموه".
وليسَت مصادفةً أنّ المتحمّسَ الوحيدَ هو الوحيدُ أيضًا بين الرِّفاقِ الذي يُظهِرُ شعورًا دينيًّا وإن كان متذبذبًا ويَرتادُ الكنائس. فلنَخطُ خُطوةً أوسع، ولنذهَب إلى وصفِ الراوي لالتحاماتِ المُصارع البطَل روميرو مع ثيرانِه. يقول: "في كلّ مرّةٍ كان يدَعُ الثورَ يمُرُّ قريبًا جدًّا منه حتى إنّ الرجُلَ والثورَ والرداء تصبح جميعًا كتلةً واحدةً محفورةً بدِقّة".
وفي موضعٍ آخر: "يدُ روميرو اليُسرى أسقطَت العصا والرداء الأحمر على خَطم الثور كي لا يَرَى، واندفعَت كتفُه اليُسرى إلى الأمام بين القرنَين بينما ينغرس السَّيفُ في اللحم، وللحظةٍ واحدةٍ كان هو والثَّورُ شيئًا واحدا". هذا الحرص على وصف الاتّحاد بين القاتلِ والضّحيّة، والإشارة قبلَ ذلك إلى محبّة روميرو للثّيران – وهي ضحاياه المُنتَظَرة – يجعلُنا نُقدِم على ترجمةِ الطَّقس في تمامِه إلى طقسٍ مُفعَمٍ برُوح ديانات الأسرار، ولاسيّما الكاثوليكيّة، حيثُ طقوس التناوُل تدورُ حول الاتّحاد بالمسيح من خِلالِ تناوُل الخبز والخمر المقدَّسَين، والفكرة اللاهوتيّة المركزيّة تدورُ حول الإله المتجسِّد الذي يُهدِرُ عَبيدُه دمَه وهو الآتي لافتدائهم من الخطيئة الأصليّة إن آمنوا به.
ولنتأمّل وصفَ الراوي لهيئة روميرو في حلبة المصارعة بعد أن ضربَه (كون): "لم يمسّ قِتالُه مع (كون) رُوحَه، غيرَ أنّ وجهه تحطَّمَ وجسدَه أُصِيب. وها هو يمسَحُ عن نفسِه كُلَّ ذلك الآن. كان كلُّ شيءٍ يفعلُه مع هذا الثَّور يمسحُ عنه آثارَ ذلك القتال." إنّ روميرو إذَن رمزٌ مقدَّسٌ، لعلّنا لا نبالِغُ إن قُلنا إنه علامةٌ على المسيحِ الذي تفتقدُه حياةُ الرفاق المفعمَةُ بالسطحيّة والعبث، والذي لا يكادُ يؤمنُ به حقَّ الإيمانِ إلا الرّاوي ﭼِـاك. إنه المسيحُ وقد رُفِعَ إلى السماءِ منتصِرًا رغم الصَّلب وتاجِ الشَّوك حسبَ العُرفِ المسيحي.
وعلى ذلك يكون الجيلُ الضائعُ الذي أشارت إليه (شتاين) في مفتتح الكتاب شيئًا أكبرَ من مجرّد رُفقةٍ أمريكيّةٍ من الكُتّاب في ﭘـاريس، فهو الجيل الذي شهد الأحلام الورديّة للعقلانيّة الأوربية تنهارُ مع الحرب الكُبرى الأولى.
يتوافَقُ مع ذلك هجرةُ الراوي من الـﭙـروتستانتيّة المُحتفية بالعقل إلى الكاثوليكيّة التي تزيدُ مساحةَ الغيب في وعي أتباعِها بالعالَم باحتفائها بالأسرار المقدَّسَة. هكذا يبدو الراوي نموذجًا لمحاولةٍ صادقةٍ للعودة إلى الجذور ممثَّلَةً في مهرجانٍ دينيٍّ كاثوليكيٍّ في أوربّا، يحتفي بطقسٍ بدنيٍّ فيه من العُنف والدَّمِ ما يُعيدُ إلى طبقاتِ الوعي ذكرى الفِداء المسيحيّ، مقابلَ رفاقٍ لا يفهمون هذه الأمور، فهم يُشاهِدون ما يَجري فحَسبُ، غارِقين في صراعِهم على امرأةٍ جميلة.
فَلنَخطُ خطوةُ أخرى ولنتأمّل حديثَ برِتْ وﭼِـاك قُربَ النهاية:
- تعرفُ أنه أمرٌ يجعلُ الواحدةَ تشعرُ شعورًا جيّدًا، حين تقرِّرُ ألّا تكون عاهرة.
- أجَلْ
- إنه شيءٌ لدينا، بديلٌ عن الرَّبّ.
- بعضُ الناسِ لديهم الرَّب. كثيرٌ من الناس في الحقيقة.
- إنه لم يعمل أبدًا بشكلٍ جيٍّدٍ معي.
هكذا تجسّدُ (بْرِتْ) حضارتَها التي تحاول تأسيسَ أخلاقٍ لا دينيّةٍ ولا تفتؤُ تتعثّر في هذه السبيل. والحَقُّ أنني حين أتأمّل علاقتها بـ(كون) اليهوديّ المُرهَف المتحفّظ ثُمّ علاقتَها بروميرو، أتذكّرُ مقولةَ كيركِـغور عن أنصِبة الديانات الإبراهيمية من التأثير في ثقافة العالَم (ويقصِدُ أوربّا لا محالة)، فلديهِ أنّ "المسيحية هي المالِك الحقيقي للعرَبة، واليهودية هي الحُوذيُّ الذي يقودُ العرَبة." وكنتُ قد استعنتُ بهذا الاقتباس في مقالٍ سابق.
والشاهد أنّ سخريةَ (مايك) من (كون) بقَولِه "إنّ (برِتْ) طارحَت رجالًا كثيرين الغرامَ، ليس من بينهم يهود"، والازدراء الذي تُبديه (برِتْ) إزاءَ (كون)، وشعورَه بأنه منبوذٌ وليس له من صديقٍ إلا (ﭼِـاك)، كُلَّ هذا يتجاوبُ بطَريقةٍ ما ومقولةَ (كيركغور). وإذا قرأنا قولَ (مايك) الساخرَ عنه "ثُمّ أرادَ (كون) أن يأخُذَ (برِتْ) ويَمضي. أرادَ أن يجعلَ منها امرأةً شريفةً، هكذا أتخيّل. يالَه من مَشهَدٍ مؤثِّرٍ لَعين!" فلنا أن نربِطَ بين (كون) وما يقِفُ علامةً عليه مِن إرثٍ يهوديٍّ صارمٍ في تصوُّر علاقةِ الرَّبِّ بالعالَم. كأنه يُجسِّدُ الحياةَ في ملكوتِ الآبِ بالمصطلَح المسيحيّ.
ومن اللافِت أنّ همنغوِاي قد بدأ الروايةَ بوَصفٍ مُسهِبٍ لشخصيّة (كون) وخلفيّته في أمريكا، حتى لقد ظننتُ هذا الأخيرَ سيحظى ببطولةٍ مُطلَقةٍ للرواية، وتدريجيًّا سحبَ البِساطَ مِن تحت قدمَيه حتى مُنِيَ بهزيمتِه النّكراءِ في حُبِّه لِـ(بْرِتْ). هكذا كرَّسَ هنمغوِاي دورَ (كون) كمَجرّدِ حُوذيٍّ للعرَبة، سواءٌ وَعى ذلك أو لَم يَعِه.
أخيرًا لا تفوتُنا ملاحظةٌ قد تبدو هامشيّةً، تتعلّقُ برأسِ (بْرِتْ)! في المرّة الأولى وهي موشكةٌ على دخول الكنيسة مع الرِّفاق تُمنَع من الدخول لأنها لا ترتدي غطاءَ رأس. وفي تطوُّرات علاقتِها بروميرو نعرفُ تحريضَه لها على أن تُطيلَ شَعرَها لتبدو امرأةً أكثرَ ممّا هي، لكنه يتجاوزُ هذا الأمرَ سريعا. ويبدو أنه إذا كان روميرو رمزًا مسيحيًّا كما أسلَفنا الإشارة، فإنه – في مقابلِ (كون) – يمثّل حياةً في ملكوتِ الابنِ بالمصطلَح المسيحيّ كذلك، حيثُ الأوامرُ أقلُّ صلابةً ممّا هي في ملكوتِ الآب.
ولعلّ ما تذكرُه (برِتْ) مِن أنه لم يسبِق له أن أقامَ علاقةً قبلَ معرفتِه بها إلا مع امرأتَين، وأنّه لم يهتمّ أبدًا إلا بمصارعة الثيران، لعلّه يتجاوبُ وما نعرفُه عن عِفّة المسيح وعُذريّتِه. وإنّ (برِتْ) حين ترفضُ إكمال علاقتِها به في النهايةِ وهي تبكي بحُرقةٍ، تُقِرُّ في الحقيقة بأنها امرأةٌ منذورةٌ لِلَّعنة. إنها عينُ حضارتِها في أشدّ وجوهِها بُؤسًا، وقد رضيَت أن تهجُرَ المسيحَ نفسَه لأنها مُوقِنةٌ في قرارةِ نفسِها أنها ستعصي وصيّتَه المبسوطةَ في إنجيل مَتَّى (6: 24): "لا يَقدِرُ أحدٌ ان يَخدُمَ سيِّدَين".
ختامًا، نعودُ إلى تلك الشمس التي تسطعُ حارقةً خارجَ الكنيسة في المشهدَين اللذَين دخلَ فيهما الراوي إلى الكنيسة.
يبدو أنّ الشمس التي تسطعُ أبدًا غيرَ عابئةٍ بلَعِب البشَر الذي يتخيلونه كفاحًا، يبدو أنها هي نفسَها تسطعُ كذلك على رؤوس الناس لتحرقَهم في أَتون ذلك الكِفاح المُلهي، فلا يجدون مُتَّسَعًا من الوقتِ ولا النفسِ – على غِرارِ (برِتْ) – للاحتماء بظِلّ الدِّين واكتشافِ مَناطقِه التي طالَ هِجرانُهم إيّاها.
لكنّ روايةَ همنغوِاي الطافحةَ بالرُّموز تحاولُ لَفتَ المُنتَمين إلى حضارةِ الغرب إلى هذا الأمر. فإمّا التمهُّلَ وإعادة الحسابات، وإمّا الوَداعَ المريرَ لمُصارع الثيران المُقدَّس!