رياض محمد يفتح أبواب المنفى
8-تشرين الثاني-2022
صباح الأنباري
(باب المنفى) مجموعة شعرية تدخل ضمن ما يسمى (أدب المنافي) للشاعر المغترب رياض محمد الذي جعلها بين بابين: فتح الأول على عالم المنفى وعذاباته عام 1979، وأغلق الثاني على تلك العذابات عام 2009، وما بينهما بوابات أخرى لا تقل عن البابين المذكورين أهمية في المعنى والمبنى، وقبل الدخول الى عالم المجموعة أو بواباتها أتوقف عند عتبة العنونة المركزية (باب المنفى) ولا أعنى عنونة القصيدة حسب، بل عنونة المجموعة كلّها التي ارتقت هامة الغلاف الأول وتربعت فوق لوحة الفنانة التشكيلية القديرة سعاد هندي.
اللوحة بشكل عام تضمنت رموزاً استوحتها سعاد من أجواء المجموعة أولا، ومن واقع معايشتها لغربة الشاعر رياض محمد ثانيا فهي دالات عميقة لمدلول يصب في جوهر المعنى الذي أراده رياض وأبدعت فيه سعاد فكانت لوحتها متداخلة من حيث الدال والمدلول على متضمنات، ومحمولات قصائد المجموعة إذ نرى فيها ضخامة باب الغربة، وظلَّ جسد الشاعر وهو ينتظر انفتاح الباب لبدء الدخول الى عالم واسع شاسع لكنه في حقيقة الأمر يبعث على التشاؤم فسماؤه كابية، وشمسه واهنة ذابلة صفراء ولكن المغري فيه هو السلام والحرية، رأيت فيه حمامتين بيضاوين تحلقان فوق أفقه الواسع بحرية واطمئنان هما، على حسب ظني، الشاعر المنفلت من قيود المكان والفنانة المتمردة على اختزال الألوان. لقد توحدت التجربتان وتكاتفتا لإنتاج أجمل الألوان وأعذب الكلمات، وقد سبق لنا أن تناولنا سحر وجمال لوحات الفنانة سعاد في دراسة معمقة، وآن لنا أن نتناول جماليات شعر رياض.
يفتتح رياض مجموعته هذه بقصيدة (باب المنفى) وهي أمّ القصائد والمجموعة في آن واحد، وهي بوابة الدخول الى عالم المنفى وخاتمته وما بين البابين ذاكرة مشدودة الأواصر بالوطن وما جرى له من تغييب وقسر وضياع للهوية حتى أمسى بلا هوية، ونسي وتاه في متاهات خبر كان، يقول الشاعر على الغلاف الأخير:
كان لنا وطن
فإلى أي جهات غادر أو الى أي ظلمات قذفوا به حتى صار ماض لا أثر له على مساحة الحاضر، وبعد (كان لنا) أن نبكي ونذرف دموع الألم والمرارة على موتٍ حاصرنا ولم يكن أمامنا إلا أن نهرب منه نحو آفاق مبهمة لا يكون فيها القتل مجانيا أو القتل على أساس الهوية، أو أو.. إلخ. لقد طارت حمامتا رياض بحرية في البعيد وحلقتا في سماء باردة مثلجة غير سمائه الدافئة. والسؤال هنا (كيف) حدث كل هذا؟ يجيبنا الشاعر على الغلاف الأخير قائلاً:
أضعنا مفاتيح جناننا
حين أسلمنا رؤوسنا اليانعة
للسياف
لقد اشتركنا في خلق تلك البلوى، بل تلك الكارثة العظمى التي لم نجن منها غير الغربة والاغتراب وكأن الحجاج كان على حق حين أكد على أن رؤوسنا أينعت وحان قطافها، ولكن الطامة الكبرى حين أفَقْنا و:
وجدنا البلاد كلّها
مقطوعة الرؤوس.
فأي كارثة أصابتنا، واي بلوى ابتلينا بها لنترك خلفنا البلاد بلا رؤوس! طويل الطريق نحو الغربة، ومنحرف نحو اليمين، وسلمه صعب الارتقاء ومغامرة محفوفة بالمخاطر والموت. أليس هذا هو نفس ما وضحته لنا سعاد في لوحتها؟ أليس هذا هو ما أشار إليه رياض في أغلب لوحاته الشعرية؟ لن أتناول باب المنفى بالتفصيل الدقيق لأنني سأركز على صوت انطلق من داخل القصيدة موجها للشاعر الذي اعتزم على المغادرة وما من شيء قادر على ليّ عزمه. يقول صوت أخيه الأكبر متعجباً:
مجنون!
كيف يترك بلاداً بوسع سماواتِنا
ليحشرَ جسدَهُ النحيل
في منافٍ
ضيقةٍ
باردةٍ
صدئة
غريباً سيكون
غريباً سيموت
لاحظ شدة المقارنة بين البلاد الواسعة وبين المنافي الضيقة من خلال التساؤل عنها بأداة الاستفهام (كيف) التي شددت على حال المقارنة ومجهولية الرد علما أن الإجابة تضمنها الحال، في الأولى حجم البلاد التي هي بوسع السماوات، وفي الثانية حالة المنفى الضيق، والبارد، والصدئ، ثم يأتي حال الاستنتاج المستقبلي غريباً سيكون، وغريباً سيموت. وهذا هو حال الغربة عموماً والتي يتقبلها المغترب على حساب نفسه وتشوش ارتباطه بالمكان، وعلاقاته الحميمة التي يضطر الى استبدالها بعلاقات جافة وربما يكتفي منها بابتسامات متكلفة على شفاه غريبة، وهو يخضع بشكل دائم لمقتضيات المكان الجديد الذي يرغمه على العيش داخل زنزانة ذكرياته عن المكان الأول الذي لا يزول أثره حتى وان مضى على اغترابه دهرا طويلاً ربما نستثني أولاده أو أحفاده الذين ولدوا في المنفى وتأقلموا عليه، وصارت لهم فيه ذكريات مختلفة التفاصيل، وبسببه نجد رياضا يركز في قصائده على جماليات الأمكنة التي ارتادها في طفولته وشبابه الأول: البيت، والمدرسة، والشناشيل، والشارع، والنهر، والوزيرية، والمدينة، والوطن.. إلخ. وان كل مكان جديد سيحبه لا بد وان يرتبط عنده بمكان قديم وكأن المكانين في حالة صراع يصعب على أحدهما إزاحة الآخر أو تحييده على أقل تقدير. ولعل أول تلك الأمكنة القديمة هي الغرفة والبيت مكان تتسلق جدرانه أعز الذكريات، وتهرب إليها الحروف، تتسلق هاربة من ثقل الكتب حيث شقيق الشاعر يطارد أفكاره مترنحاً من شدة خمرتها وابتلائه بها داخل غرفته الأثيرة. وكما الغرفة ساحات المدرسة التي كان رياض يجتمع فيها لتلاوة نشيد الصباح والوطن مع مجموعة من أقرانه الطلبة بحب يحوّل النشيد الى وطن، والوطن الى بهجة صباحية تطير بهم على جناح فراشة ملونة، في تلك الساعات المتكررة كل يوم كانت والدته تهيئه للذهاب الى المدرسة وهو الولد المشاكس الذي يرفض ارتداء سترة أخيه الواسعة فيهرب الى المدرسة بقميص
يوشك أن يصرخ من البرد
وفي المكان ذاته يسترجع رياض وجه معلم الجغرافيا المولع بتتبع نهر الفرات من المنبع الى المصب. والفرات هنا صورة أخرى من صور المكان الأثير. ولا غرابة إن عرفنا أن بيت الشاعر كان على ضفة هي الأقرب إليه من نبض القلب.
الغربة والمنفى ذاكرة استرجاعية تفعّلها مرارة الابتعاد والنأي عن الأهل، والأحبة، والأمكنة الراسخة في الذهن والعميقة أخاديدها في القلب والروح. الغربة شوكة قاسية غرزت في أعماق المشاعر التي كلما طرحت أرضاً ازدادت وغزاً وتهييجاً للمشاعر الدفينة والضمير الحي. الغربة سلطة تفرض إرادتها وأجندتها وهي المتفضلة بشيمة الكرم والديمقراطية المشرعة أبوابها لكل من هب ودب، فهم جميعاً، في عرفها، ليسوا سوى أرقام مضافة لكمٍّ سابق من الأرقام المجردة. وبعد هذا وذاك فهي المحفز المركزي للحنين والاشتياق واجترار الماضي. الماضي الذي تعجز الذاكرة عن محوه أو تغييبه أو التعتيم عليه. وما بين الغربة والمنفى آصرة قد تختلف فقط من حيث قوة الإجبار والاختيار.
لقد ظلت البلاد القتيلة تئن وتنزف من طعنة خنجر غرس في صدرها الرؤوم فسال دمها واتسعت بقعته على الأرض وهي على الرغم من ذلك
تبتسم في سرها
وتضحك علنا من هذا العالم المجنون
وتكبر بركة الدم، تكبر وتتسع في (حي بابل) قبل نصف قرن أو يزيد قليلاً وكل هذا كان قبل أن تستبدل المدن جلودها وقبل أن تزعق أغاني السبعينات مرنمة بحب القائد الضرورة الذي حشر الناس في طوابير للموت الرخيص بينما ظلّ صوت المغني يصدح (العزيز أنت) فتردد الحناجر من بعده وكأنها قطيع فيلة أضاع الطريق (العزيز أنت)
هكذا كنا نغني
لطاغية جاء ليبقى
ولتغادرنا البلاد...!!
يسترجع رياض في منفاه أو غربته لا فرق ساحات الوطن، ونكباته المتتالية مثل سبحة صوفي أو مثل شجرة أينعت ثمارها ثم راحت تتساقط واحدة تلو أخرى. ويسترجع صرير الباب الخشبي وهو ينفتح الى الداخل حيث الرحى الحجرية أو مطحنة الحزن العراقي التي لا يشبع أحد منها إلا ويجوع آخر. يسترجع النخلة العجوز، والخرائب الطينية، والشهداء المذهولين، والصور ذات الملامح والصور التي ليس لها ملامح، شناشيل الحلة، وبيوتها القديمة، والفرات القتيل، وتغريد البلبل الشجي، وأغاني فيروز في صباحات الوطن الحزين. وطن القتل والتغييب القسري الذي غادره رياض، ولكنه لا يزال واقعا تحت تأثيراته المختلفة حتى أن شبح القتل الفردي والجماعي لا يزال يلاحقه وهو يخطو باطمئنان في طرق المنافي ذلك القتل الذي وصل الى الفرات ليلطخه بالدم فيقرر الشاعر أن الفرات قتل هو الآخر وجفت سواقيه وماتت كمدا وحسرة، وفقدت الفراشات ألقها وبهجة سويعاتها فحاصرها القتل وعز عليها الرحيق:
يا فراشتي
وردتي القتيلة
مثل بلادي
أليس غريبا أن تسلمك الغربة لأخرى غيرها، وربما اشد وأمر منها؟ هذا هو حال الشاعر أينما حط رحاله، وفي أي محطة، ترجل فيها، من محطات المنفى، وسيظل باحثاً دؤوباً عن الفردوس الذي فقده ذات عشية غامضة، وكأنه وناسه خلقا لعذابات ستطول كل أيام اغترابه المريرة.
لقد هرب من القتل ليقع بقتل آخر لا يقل قسوة عما سبقه ولا تغييباً عما فرض من قبل بعد أن انزوى كل شيء جانبا بما في ذلك الموت الذي راح يجهش بالبكاء فتحولت المدينة بكل ما فيها الى قبر كبير يستوعب العديد من الشهداء حتى أجل غير مسمى. وإذا كان أهل مكة أدرى بشعابها فان رياضا أدرى بشعاب بلاده التي كفنها الذبح بويلات الغياب وتركها غافية على ترنيمة الغدر والضياع، وما من فسحة نور تطل عليها من كوة صغيرة بعيدة في نهاية ظلمات كهف رهيب. لقد توقفت الحياة تماماً وظل الموت وحده يتجول طارقا أبواب المدينة.
المنفى عند رياض محمد إذن سلسلة من الذكريات بحلوها اللذيذ الذي تصاغر أمام مرّها القاتل، ذكريات أشبعت جلداً حتى ازرق لونها، وتوغل ألمها الى أعماق روحه، وفرضت عليه إقامتها الجبرية، وبرغمها ظلّ ثابتاً على المضي نحو آفاق الخلاص، وهو الهارب الخائف على وجوده من التغييب والزوال. والصارخ بنفسه ألا تنظر الى الوراء:
قبل أن تصل الى الحدود
لا تنظر الى الخلف
وطنك الذي كان
وما يزال
يطاردك
أينما اتجهت...!!
وتلك هي حقيقة المنفى التي لا تني تفرض على المنفيين هذا النوع من المطاردة العجيبة التي لا تنفك تلاحقهم من مكان الى آخر ومن بلاد الى أخرى بلا هوادة، أو سكينة، أو جنوح للسلم.