محمد عبد الجبار الشبوط
بخصوص الامر الاول نحن نعلم ان الرسول سعى على مدى ٢٣ عاما الى تأسيس الحضارة البشرية بمفهومها الجديد وكانت ثمرة هذه الجهود اقامة "دولة المدينة" ثم معظم شبه الجزيرة العربية بعد عام ٩ للهجرة. لكن القران توقع ان تنتكس التجربة بعد وفاة الرسول، لقوله:"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ". وهو ما توقعه الرسول ايضا، بسبب حداثة التجربة وقلة الاعداد والتدريب والتربية. وقد حصل ذلك تحت شعار:"إنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ، حَسْبُنا كِتابُ اللَّهِ"، كما ورد في حديث صحيح لابن عباس اخرجه البخاري في صحيحه. وهو امر سبق للرسول ان توقعه حين قال حسب الحديث الصحيح الذي يرويه ابو سعيد الخدري واخرجه البخاري:"لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟" او في الرواية التي اوردها ابن هشام في السيرة النبوية (ح ٤ ص ٦٤):"ذكر الحارث بن مالك خرجنا مع رسول الله إلى حنين في سنة ٨ هجرية "ونحن حديثو عهد بالجاهلية" وفي الطريق طلبوا من رسول الله أن يجعل لهم ذات أنواط كما كانت لكفار قريش فقال لهم رسول الله الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا اله كما لهم الها، واضاف: إنكم قوم تجهلون، إنها السنن السماوية لتركبن سنن من كان قبلكم".
وبخصوص الامر الثاني نحن نعلم ايضا ان النبي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه واله وسلَّمَ خَرَجَ إلى تَبُوكَ، واسْتَخْلَفَ عَلِيًّا، فَقَالَ: أتُخَلِّفُنِي في الصِّبْيَانِ والنِّسَاءِ؟ قَالَ: ألَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ، مِن مُوسَى إلَّا أنَّه ليسَ نَبِيٌّ بَعْدِي. حديث صحيح اخرجه البخاري عن سعد بن ابي وقاص.
من قصتي (ابراهيم وموسى) يمكننا الاستنتاج ان الله لا يفاجيء الانبياء بالتكليف، وانما يهيء الاسباب الطبيعية وربما الغيبية لرعايتهم واعدادهم ليوم "المفاتحة" بالنبوة والرسالة. وهذا ما حصل مع النبي محمد كما تشهد سيرته قبل البعثة. بهذا الخصوص نجد روايات تؤكد رعاية الله للنبي محمد منذ طفولته حتى بعثته وقد لخص القرآن الكريم هذه الرعاية في ثلاث آيات من سورة الضحى تقول: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى؟ وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى؟".
حيث تبين هذه الآيات رعاية الله سبحانه وتعالى للنبي في ثلاث مراحل مهمة من حياته هي الأولى مرحلة اليتم والثانية مرحلة الفقر، الثالثة مرحلة الهداية. فقد مات أبوه و هو في بطن أمه ثم ماتت أمه و هو ابن سنتين ثم مات جده الكفيل له و هو ابن ثمان سنين فكفله عمه و رباه. ثم مرحلة الهداية الى هويته النبوية التي عرفها كما يبدو قبل زواجه من خديجة وقبل نزول سورة العلق. واخيرا، قد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيرا لا مال له فأغناه الله بعد ما تزوج بخديجة بنت خويلد (عليه السلام) فوهبت له مالها و كان لها مال كثير.
اذاً، لا يمكن أن يباشر النبي أعماله كرسول دون أن يكون مطلعا وفاهما ومستوعبا لرسالته من حيث جوانبها العقائدية واتجاهات التشريعية خاصة إذا كانت أعماله الرسولية سوف تستغرق زمنا طويلا كما حصل مع النبي محمد. وبالتالي فإنه من اللازم أن يكون النبي محمد قد دخل دورة تثقيف مركزة عن طريق الوحي بتفاصيل الرسالة الإسلامية. وفي القرآن إشارات كثيرة إلى هذه الحقيقة كما في قوله تعالى: "سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى، فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى . (الاعلى ٦-٩) وسياق هذه الايات يفيد "أولا بإصلاح كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تجريده عن كل ما يشعر بجلي الشرك و خفيه بأمره بتنزيه اسم ربه، و وعد ثانيا بإقرائه بحيث لا ينسى شيئا مما أوحي إليه و تسهيل طريقة التبليغ عليه ثم أمر بالتذكير و التبليغ"، كما قال في الميزان.
والخلاصة: ان النبي كان على علم بما يجري له، ولعله كان يتوقعه في كل لحظات تواجده في غار حراء، وانه لم يتفاجأ بالصوت الذي قال له: اقرأ!
يتبع