سينما الهند في القرن الـ21 مذابح وفقر وأكثر من مجرد رقص
10-أيار-2023
مصطفى علي
ظهرت السينما بالهند بالتوازي مع ظهورها في الغرب ومصر، وصور الفيلم الروائي الأول في عام 1913 عن ملحمة ميثولوجية تعتمد على جزء من أحداث (الماهاباهارتا) وظلت السينما تتطور حتى عام 1950م حين بدأت في الظهور في مدينة بومباي استديوهات سينمائية تحوي نوعية جديدة من الأفلام بين التيمة التقليدية؛ الرقص، والموسيقى، وأثر هذا النوع في السينمائيين الهنود لفترة فظلوا ينتجون أفلامًا هادئة مع ألحان رقيقة، إلى أفلام الحركة على خلفية موسيقى راقصة قريبة من الديسكو الغربية إلى حد ما، مضاف إليها الطبول التقليدية وموسيقى البانغو، وكان هذا ميلاد الأفلام المسماة (ماسالا) والتي تعني حرفيًا مزيج من البهارات المستخدمة في المأكولات الهندية.
استطاعت السينما الهندية بتلك الخلطة أن تروج جماهيريًا خارج الهند كما في داخلها، من خلال قصة حب معقدة بمشاكل اجتماعية كالفوارق الطبقية والدينية، مزينة بالقليل من الشهوانية المبطنة بين فتاة جميلة وبطل جذاب، وبعضًا من التشويق السياسي أو البوليسي، والمعارك الضارية والبطل الذي لا يُقهر رغم كونه بشري عادي وليس خارقا، واستعراضات خارقة بداع أو بدون داع، والنهاية السعيدة.
تستثني من ذلك الأفلام التي قدمها أشخاص مثل ساتياجيت راي المخرج الرائد للسينما الهندية، والمخرجة ميرا ناير، حيث قدم كلاهما أفلامًا اجتماعية معقدة واقعية عن الريف والمدينة، ففيلم "سلام بومباي" للمخرجة ميرا ناير استطاع أن يترشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
تنتج دولة مثل الهند ألف فيلم سنويًا تبلغ إيراداتها نحو 10 مليار دولار في السنة و500 ألف عرض يوميًا، حيث تصبح صناعة السينما جزءًا من الاقتصاد الوطني والهوية الهندية، وبسينما ضخمة بتلك الضخامة، لا يمكن القول أن سينما "الماسالا" ماتت، ولكن المكان اتسع في القرن الواحد وعشرين لسينما أخرى تنتج بكثرة وتنافس في المهرجانات الدولية تتحدث عن مشاكل الهند بواقعية.
فالصورة النمطية عن السينما الهندية بقصصها السطحية البسيطة المغلفة برقصات وأغان لم تنتهي بعد، ولكن هناك نوع آخر من السينما المستقلة الهادئة يبرز تدريجيًا وهذا النوع يجد طريقه إلى المهرجانات الدولية بسهولة.
قضايا أخلاقية شائكة
حتى عام 2001، لم تعرف الهند طريق الأوسكار سوى بترشيحين لأفضل فيلم أجنبي، وقد خسرا الجائزة، وبدأت نوايا السينما الهندية في القرن الجديد تنعكس مع بداياته حيث وصل فيلم الفنان عامر خان "لاجان: كان يا ما كان في الهند" والذي تدور أحداثه في الهند في فترة ما قبل الاستقلال، الذي عبر عن عسف الاحتلال البريطاني من خلال فرضه ضرائب باهظة على قرية صغيرة تتأزم الأمور فيها حتى تصل إلى أن يقرر البطل أن يواجه الضابط في مباراة كريكت إذا فاز بها تسقط الضرائب عن القرية.
لا ننطلق من كون الأوسكار معيارًا يقيس جودة الأفلام الهندية، ولكن جائزة عالمية هي محط الأنظار سنويًا بإمكانها أن تعبر عن اتجاه السينما الحديث في الهند حين نرى لها حضورًا متكررًا في تلك الجوائز.
واستطاع فيلم "ووتر" 2005 أن يحصد ترشيحًا للأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي، ويعد "ووتر" بمثابة تمهيد لسلسلة من الأفلام التي ستتجه لمناقشة وضع المرأة الهندية في المجتمع، وهي المشاكل التي كان يخشى الكثيرون التعرض لها خصوصًا أنها تتقاطع مع أمور دينية تتعلق بالعقيدة الهندوسية، ففيلم "ووتر" يعرض لقصة مجموعة من النساء العاملات من الريف والتي تقع إحداهن في حب شاب من الطبقة العليا، مستلهمين التاريخ لعرض المشكلة، حيث تدور أحداث الفيلم 1940م.
إلى جانب فيلم "ووتر" وقضيته التي تتقاطع مع قضية المرأة، تحفل السينما الهندية بأفلام أخرى تمس قضية المرأة أو قضايا دينية، فمن خلال الإطار البطولي في الفيلم الرياضي "دانجل" 2016 نتابع رحلة شيتا وبابو اللذان يربيهما أبوهما المصارع لكي يكونا أبطالًا ويحققوا ميدالية أوليمبية دولة للوطن، وما يعانوه خلال تلك الرحلة من محاولات التحقيب لكونهم بنات، وينتقد الفيلم ظاهرة زواج الفتيات القاصرات التي توصم المجتمع الهندي.
وفي نفس السنة عرض فيلم "وردي" لأميتاب باتشان والذي يناقش الثغرات القانونية الهندية فيما يتعلق بقضايا المرأة في بلد يرتفع فيها بشدة نسبة التحرش الجنسي والاغتصاب، حيث يلعب أميتاب باتشان دور محام يحاول أن ينتصر لقضية فتيات تعرضن للتحرش على أيدي مجموعة من الشباب الأغنياء.
ويثير فيلم "جوزاريش" 2010 للفنان هيرثيك روشان قضية أخلاقية أيضًا تتعلق بالحق في الموت الرحيم، وهو الفيلم المستلهم من فيلم النجم خافير بارديم الإسباني، حيث يعاني بطل الفيلم من إعاقة تمنعه عن العيش كإنسان بشكل طبيعي، ويدخل في جدل قضائي واسع مع القانون الهندي والديانة الهندوسية حول مدى أخلاقية حقه في إنهاء حياته.
فقر ومذابح ومراجعة كشمير
تركز أفلام الهند حاليًا على قضايا الفقر والعنف والتطرف داخل المجتمع، وقد تجد أن فيلمًا واحدًا قد تتقاطع فيه العديد من القضايا، ففيلم "سلومدج مليونير" والذي حصد جائزة أوسكار أفضل فيلم ولكن لم يكن ممثلًا عن الهند رغم كونه هنديًا في قضاياه وممثليه، يناقش قضايا الفقر والأحياء الشعبية وما تتعرض له أسرة البطل من تفكك بسبب هجوم المتشددين الهندوس على أسرته المسلمة وقتل أمه، ثم من خلال رحلة البطل نرى ما يتعرض له أطفال الشوارع من وضع مزر في الهند، تتواطأ الشرطة في الإبقاء عليه.
وظهرت نوعية من الأفلام تبحث في جذور التطرف التي تؤدي إلى مذابح في المجتمع الهندي وهي أفلام تغوص في معنى الإله والدين في المجتمع الهندي، فقد ظهر في فيلم "أوه ماي جاد" 2012 للمرة الأولى قضية السخرية من تعدد الأديان والآلهة في المجتمع وما تصنعه من شوفينية دينية وعرقية تؤدي في النهاية إلى العنف الذي يتسم به المجتمع الهندي من خلال قضية كانجي الذي يريد أن يحاكم الإله الذي تسبب بزلزال انتقم منه لتجديفه من خلال تدمير محله لبيع تماثيل الآلهة! وطور الممثل عامر خان تلك الفكرة في الفيلم الأشهر "بي كيه" 2014 حيث يعالج من خلال منظور خارجي للمجتمع، فبي كيه هو كائن فضائي يهبط على المجتمع الهندي، ويبدأ في رحلة البحث عن إله يساعده للعودة من جديد إلى كوكبه، ومن خلال تلك الرحلة يصطدم بسيطرة الكهنة على عقول العامة وما فعلته تجارتهم بالدين من حالة احتقان وسيادة للخرافة والجهل بالمجتمع.
وتتميز السينما الهندية حاليًا، بمحاولة نقد الذات في قضية كشمير، رغم ما يعانيه صناع الأفلام عن قضية كشمير من تعصب اليمينيين في الهند، حيث قدُمت أفلام عن قضية كشمير مثل فيلم "حيدر" 2014 وفيلم "ملفات كشمير" 2022 وفي حين يتم التعرض لقضية كشمير فإن صناع الأفلام يجدون أنفسهم متقاطعين مع الحكم العسكري الذي طبقه الجيش الهندي وما حدث خلاله من بطش بسكان كشمير والمسلمين في باكستان وتلك العلاقة الشائكة التي سادت ذلك الإقليم، والذي تعد بمثابة أمن قومي للهند، ولكن رغم ذلك، تجد السينما الهندية قادرة على توجيه النقد والتركيز على تلك القضية وإعادة فتحها من جديد في ضوء المعلومات التي تتكشف عنها يومًا بعد يوم.
وتفتح أفلامًا أخرى أبوابا لمناقشة الصراع الطبقي، والتي تحميها موروثات الثقافة الهندوسية السائدة، ففيلم "النمر الأبيض" الذي أنتجته منصة نتفليكس عام 2021 يبحث في قضية شائكة هي قضية تقسيم المجتمع الهندي إلى طبقات وفقًا لقانون ديني، يجعل من العبودية مشروعة في القرن الواحد والعشرين داخل الهند، وهو الفيلم الذي ترشح للأوسكار عن السيناريو، حيث نتابع قصة صعود بالرام من الفقر المدقع إلى قمة الغنى، وتفتح تلك القصة مجالاً للجدل الأخلاقي الذي يعرض أيضًا لكيفية الصعود غير الشرعي فيما يوازي وادي السيليكون في الهند، وأن المجتمع الهندي على وشك الانفجار الطبقي.
ولا يبتعد فيلم "جاي بهيم" 2021 عن نفس القصة، فهو يناقش قضية الذين ينتمون إلى الطوائف والمجتمعات القبلية المسماة "داليت" وهي تشكل 20% من المجتمع الهندي، ولأن الداليت هي في قاع الهرم الاجتماعي للهند، حيث يعتبرهم المجتمع أنجاسا، ويوكلون لهم الوظائف الوضيعة، وهو تقسيم ديني متبع في الهند، وينتقد الفيلم تلك القضية التي تسهل من جعلهم المتهم الرئيسي في قضية لا يمكن الدفاع عن حقوقهم فيها.