شخصيات شكسبير متهمة بقتله في مؤامرة مسرحية سورية
9-تموز-2023
سامر محمد اسماعيل
ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها عروة العربي إلى نصوص وليم شكسبير (1564-1616) لتقديم عرض مسرحي، فقد حقق المخرج السوري العديد من نصوصه، كان أبرزها مسرحية "هاملت" عام 2012، ومسرحية "عن الحب وأشياء أُخرى" عام 2014 عن نص "روميو وجولييت"... وها هو اليوم يعود إلى صيغة مغايرة في فرضيته الأكثر جرأة، سواء على صعيد كتابة النص (خالد النجار)، أو حتى على صعيد الفكرة والإخراج اللذين وقّعهما العربي باسمه، حاشداً على مسرح فواز الساجر 15 شخصيةً من أشهر شخصيات المؤلِّف الغامض.
يضعنا العربي منذ عنوان العرض "ما لم يكتبه شكسبير" على عتبة السؤال مباشرةً، ويقترح فرضية لافتة عن مأدبة عشاء متخيلة في قصر ستراتفورد، مسقط رأس الشاعر الإنكليزي، تتم فيها دعوة أشهر شخصيات مسرحياته، منتزعاً إياها من سياق نصوصها الأصلية، ليضعها في مجابهات دموية في ما بينها، بعد أن يظهر علينا طيف شكسبير (أدى صوته فايز قزق) مُخاطباً شخصياته على النحو الآتي: "روحي لن تهدأ ولن تستكين إلا عندما يؤخذ بالثأر لها. ثأرٌ لغدرٍ خسيس أطاح بها، فأنا لم أمت ميتةً طبيعية، بل قُتلت ظلماً وبهتاناً. قتلتني إحدى شخصياتي التي دعوتُها إلى مأدبة العشاء هذه. نعم من قتل كاتبكم يا أعزائي هو شخص من المدعوين إلى هذا القصر، والآن أنتم سجناء فيه، إلى أن تعثروا على قاتلي، وتستعيد العدالة توازنها".

مات قتلاً
إذاً صاحب "يوليوس قيصر" مات مقتولاً كما يخبرنا العرض السوري، ولم يمت بحُمّى التيفوس كما تورد معظم الروايات التاريخية عن أسباب وفاته، وفوق كل هذا، فإن إحدى شخصياته هي من قتلته. فرضية دسمة ومثيرة على الرغم من عدم وجود سند تاريخي يؤازرها، إلا أنها دفعت الجمهور منذ اللحظات الأولى إلى الاستغراق تماماً مع أحداث العرض (المعهد العالي للفنون المسرحية)، وجعلت المتفرج ينتبه إلى أن الشخصية أكثر خلوداً من الممثل حين تقوم تلك الشخصيات برد الصاع، والتحرر من نصوصها لمصلحة إبداع نص مختلف ومغاير، ولعله كان يحتاج الكثير من التأمل قبل تحقيقه، لا سيما على صعيد كسر وحدتي الزمان والمكان، لكنه بدا مقداماً في وحدة الموضوع، والتي انحصرت هنا حول الكاتب وشخصياته المتهمة بقتله.
يبدأ عروة العربي تجربته الجديدة بمخاتلة واقعية بحتة، فهو يطلب من ممثليه أن يباشروا بروفة الطاولة، وأن يقوموا بتوزيع أوراق النصوص بعضهم على بعض للشروع بالقراءة، وبشكلٍ اعتيادي يرتب هؤلاء الكراسي حول الطاولة المتحركة فوق دواليب صغيرة (ديكور محمد كامل). وما إن يبدأوا بتلاوة المكان والزمان في النص والتعريف بالشخصيات، حتى يندفع دخان يعقبه صوت شكسبير ظاهراً في صورته المتخيلة (مادة بصرية محمد قطان). مفاجأة تقلب الأدوار من سلوك عادي لممثلين في بروفة تجري أحداثها في الزمن الراهن إلى شخصيات شكسبيرية صرفة، من دون الحاجة إلى أزياء تواكب حذافير العصر الإليزابيثي. بل عمد المخرج مع فريقه إلى بعض الأكسسوارات البسيطة، والاستعانة بسيوف المبارزة في محاكاة لأزياء عصر النهضة الأوروبي (إخراج القتال المسرحي لعلاء زهر الدين وعلي إسماعيل).
يبدأ العرض صراعاته الدموية من الشكوك التي تحوم حول معرفة هوية القاتل، فتتجه هذه الشكوك أولاً نحو ريتشارد (براء بدوي) الذي تنتبه الشخصيات إلى أنه لم يلبِ دعوة العشاء، بل ظل كرسيه شاغراً. لكن ما إن تحاول الشخصيات قرع الأبواب والصراخ علّ أحداً يخرجها من إقامتها الجبرية، حتى يظهر ريتشارد لهم بمشيته العرجاء وهيئته المريبة، فيشهر كلٍ من ياغو (جعفر مصطفى) وماكبث (خالد النجار) سيفيهما في وجهه، طالبين منه إنهاء هذه اللعبة السخيفة، وفتح الأبواب لهما كي يخرجا من هذا المكان الموحش. لكن ريتشارد يخبرهما بأن أحداً لا يعرف هويته، أدخله إلى القاعة وأغلق الباب خلفه. وهنا تبدأ المبارزة مع ريتشارد الذي يثبت براءته من دم كاتبه، شاهراً دعوة مكتوبة تلقاها من مجهول لحضور المأدبة، ومبدداً الشكوك عنه. فصحيح أن شكسبير جعل منه مخلوقاً مشوّهاً تنبح الكلاب لمنظره المسخ، إلا أن هذا كان قبل أن يجعل الكاتب من ريتشارد ملكاً على عرش إنجلترا، ومثالاً للعالم بأن كل ذي عاهةٍ جبار.

شخصيات في قفص الإتهام
التهمة التي دفعها ريتشارد عنه يعود ويلقيها بدوره على كلاوديوس (مراد أنطاكية) الذي اغتال أخوه الملك وتزوج من أرملته في مسرحية "هاملت"، فيسأله: "كيف حال العرش يا كلاوديوس"؟ ثم يتوجه بالسؤال نفسه إلى ماكبث فيقول له: "كم جثة ترقد تحت هذا التاج الذي يعلو رأسكَ؟ أو لستم أنتم من يبصقون السُّم في كؤوس الحراس، وتغتالون ملوكاً أثناء نومهم؟".
هكذا تعود الشكوك لتحوم حول كلاوديوس وماكبث، فهما في هذا المعنى قتلة، ولن يضيرهما قتل من كتبهما على هذه الهيئة الشريرة، لكنهما سرعان ما يبعدان التهمة عنهما، ملقيين بها على كاهل شخصياتٍ أخرى. وهنا تتصدى جولييت (لانا الحلبي) لهما بقولها: "لقد اتفق الملوك في ما بينهم كي يسقطوا التهمة عنهم، ويلقوها على عاتق الشعب. ما أنتم سوى رسل من الجحيم تسلبون العدالة خيانةً وغدراً". جملة جولييت هذه تدفع بالليدي ماكبث (تيما الفقير) إلى تفجير مفاجأة من العيار الثقيل، إذ تقول: "كلنا سمعنا عن ملحمة الحب بين روميو وجولييت، ولكن هل سمعتم عن ملحمة العشق سراً بين روميو وأوفيليا؟".
"فضيحة" سوف تولّد صراعاً محموماً من جديد بين هاملت (ورد عجيب) وروميو (عمر نور الدين)، لعله يظهر طريفاً في بادئ الأمر، لكنه سرعان ما يتداعى أيضاً إلى مبارزات حامية بين كلٍ من أمير الدنمارك وعاشق فيرونا، في حين يُغمى على جولييت من هول الصدمة، فيحتضنها الملك لير (فارس جنيد) إلى صدره، ظاناً أنها ابنته الصغرى كورديليا. فالملك لير كما تقدمه النسخة السورية مصاب بمرض ألزهايمر، وعليه تصبح الشخصيات مختلفة عما عهدناها في نسخها الأصلية. فروميو يعترف بحبه لأوفيليا (مرام إسماعيل) ويقول: "في أحضان أوفيليا كنت أعود ذلك العاشق، وكنت أشعر بي رجلاً هارباً من عزلة أحلامي، وأبقى هارباً كما كنت طيلة حياتي. هارباً من اسمي، من عائلتي، من موطني، من نفسي".
اعتراف روميو بخيانته يوجه الشكوك بأنه هو من قتل شكسبير، فمن يخون يقتل بسهولة، وهذا ما يدفع هاملت للشروع في قتل غريمه الإيطالي، لكن ديزدمونة (ميرنا المير) تنبري للدفاع عن روميو، مغيّرةً مسار الشكوك مرةً أُخرى نحو عطيل (مازن الحلبي) الذي قتلها ظلماً، بعد أن أكلت الغيرة قلبه. فلماذا من قتل ملازمه كاسيو وقتلها لا يكون هو من قتل شكسبير؟ وهنا يدور حوار بين عطيل والشخصيات الأُخرى التي تنعته بالعبد البربري، فيرد عليهم: "إن حقيقتنا تسطع فوق بلادكم تستنيرون بها مما سرقتم منا من معارف وحضارات، فالبربري الذي تجعلون من اختلافه عنكم جريرة لاتهامه، راح يدافع عن بلادكم كواحد منكم أيها السادة".

تخييل مسرحي
والحقيقة أن هذه اللعبة من تبادل الاتهامات وردّها، ومن ثم اتهام شخصية جديدة لا تلبث أن تدخل في الرتابة (صوت واحد) مع اقتراب العرض من ثلثه الأخير. فعطيل يلقي بالتهمة مجدداً على ياغو، لكن هذا الأخير يذكّر عطيل بأنه هو من طلب دلائل على أن زوجته بغي، وأن طبيعته العمياء هي من قادته لقتل ديزدمونة ظلماً وبهتاناً. نفهم ذلك من كلام ياغو وغيرته من عطيل: "أمغربي أسود يقود جيشاً كاملاً من أبناء موطني؟ أقسمتُ وقتها على ألا يستمر ذلك طويلاً. يا من كنتَ كالحمار تقتاتُ على علف مكائدي". عبارة ياغو تفجر غضب عطيل الذي يندفع إلى مبارزة خصمه، لكن ديزدمونة تنهي الموقف بغرابة غير متوقعة، فتحضن ياغو بين ذراعيها وهي تردد: "ابتعدوا عنه إنه عشيقي".
أسئلة لا إجوبة عليها تجاهلها صُناع "ما لم يكتبه شكسبير" لمصلحة إنجاز ما يشبه مناحة بمذاق شكسبيري. فمع اكتشاف الشخصيات لوجود شايلوك (حسن كحلوس) بينهم، تندفع الشكوك بقوة هذه المرة نحو شخصية التاجر اليهودي بأنه هو من قتل شكسبير انتقاماً من الكاتب، لتنميطه (هو وأبناء جلدته) كصورة للتاجر الجشع المحب للمال، لكن شايلوك يتساءل: "أما لليهودي عينان؟ أما لليهودي يدان وأعضاء وهيئة؟ أليس يأكل من الطعام نفسه وتؤذيه الأسلحة نفسها؟ ألا يسيل الدم منا إذا ما طعنتمونا؟ ونضحك إذا ما داعبتمونا؟ فإن أنتم أسأتم إلينا أما من حقنا أن نطالب بالعدالة؟ أخبروني؟ أما من حقنا أن نطالب بالعدالة؟".
سؤال شايلوك عن العدالة يقابل بطعنة من سيف ماكبث ترديه صريعاً، ومن ثم ينتحر ماكبث بطعن نفسه بسيفه بعد بقاء أبواب القاعة مغلقة. وتكتمل دائرة الموت بقتل كلاوديوس ابن أخيه هاملت، لكن الأبواب بعد مقتل هذه الشخصيات الثلاث تبقى مغلقة. وتبدأ الشخصيات الملطخة بالدماء تدرك عمق مأزقها الذي وضعها شكسبير فيه، فهو من دعاها الى مأدبة الموت هذه، وورّطها في قتل بعضها بعضاً. وهنا يرفع الجميع عقيرتهم بالنداء على طيف الكاتب الغائب الحاضر، مصغيين إلى مونولوغ حفّار القبور (باسل عنيد) في رفض العنصرية والثأر إذ يقول: "هل لأحد أن يخبرني أي هذه الجماجم لسيدٍ وأيها لقاتل؟ إن كان هذا الرجل أبيض أم أسود، عربياً أم أعجمياً، مسيحياً أم يهودياً أم عبداً للجحيم؟".

هذا الانهيار الدراماتيكي الحاد للشخصيات، والتمادي في تغيير مصائرها وسماتها الأصلية، وتبديل تاريخ الشخصيات وليّ أعناقها، جعله متضارباً مع نزعاتها وعقباتها التي وضعها شكسبير لها. أتى ذلك على حساب توفير صراع درامي لاهث، والحفاظ على إيقاع منضبط ومتفاقم للعرض، لكنه بدا طريفاً وغير مفهوم على صعيد الإفادة من الحوارات في النصوص الأصلية، ومن ثم اللعب على تغيير السياق وتوحيد الأزمنة والأمكنة للنصوص التي تم الاشتغال عليها. لقد أفاد مخرج العرض وكاتبه من المآسي الشكسبيرية لمصلحة تقديم عرض في صيغة أكاديمية بحتة، والخلاص إلى جانب متخيل ومجهول من عوالم أعظم كاتب مسرحي على وجه البسيطة.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech