أنطوان أبو زيد
ثلاثة دواوين جديدة لثلاثة شعراء عرب شباب تحمل خصائص مشتركة، لا سيما على مستوى مواجهة العالم المعاصر وأخطاره التي تهدد إنسانية البشر. وتختلف بعضها عن بعض، في اللغة والأسلوب وفي الرؤية الشعرية إلى الحياة.
يقول رومان ياكوبسون في معرض تعريفه بالشعر: "إن الشعر هو الذي يحمينا من خطر التحول إلى آلات، وهو ضد الصدأ الذي يتهدد صيغتنا للحب وللكره والانتفاض والإيمان والإنكار على حد السواء".
لا أحسب أحداً من الشعراء العرب الحديثين والمعاصرين، أياً كانوا، من ذوي الإبداع والحرص عليه، أو المثابرين على التقليد والمنوعين فيه، يخالف هذه المقولة العامة، وأخص منهم شعراء قصيدة النثر الحداثيين الذين لا يزالون يحملون في طيات قصائدهم هموم الشعر السالفة، باعتبارها عناوين من تجاربهم الوجدانية والإنسانية التي لا يحدها نوع أو شكل أو إطار. لا سيما أن الحداثة تقتضي من هؤلاء أن يسقطوا أغراضاً شعرية تقليدية، ويحيوا مواضيع أو تيمات هي أكثر دلالة على ذاتية الشاعر البارزة وفرادته، وعلى رؤيته للعالم وفكرته عن القضايا الكبرى وانتمائه إلى اتجاهات فكرية وفلسفية حاضرة في زمننا.
"فيما تمعن الاشياء العادية"
ولئن كان للشعراء الثلاثة الذين صدرت لهم مجموعات شعرية حديثة، وهم: أصالة لمع وعبدالجواد العوفير وعلي شمس الدين، بواكير أولى سبقت الإشارة إليها، فإن مواكبة أعمال هؤلاء المجددين، في أعمالهم التالية توفر للقارئ والناقد مجالاً لرصد اتجاه كل منهم، وتمنحهما بعضاً من المؤشرات الدالة على تفرد تجربته وخصوصية عالمه.
تقول الشاعرة أصالة لمع في ما يشبه التمهيد لكتابها الجديد "فيما تمعن الأشياء العادية" (دار المتوسط - سلسلة براءات)، "يولد بعضنا بفائض في الحواس/ يعانون فرط التيقظ... أنجو بالخيال وحده" (ص:7). وكأن ما تزمع قوله من شعر، في ما يأتي كله نابع من فيض الحواس، ومن اختلاطها، على ما انتهى إليه الرومنطيقيون بمراحلهم المتأخرة (بودلير، رامبو، فيرلين...).
إذاً، تتبع الشاعرة لمع نهج الحواس لالتقاط الحقيقة المحسوسة، بمنظار الرومنطيقيين (فيكتور هوغو مثلاً)، وعرضها، وبسط الشكوى من آثارها على الذات المعانية، مع قدر متفاوت من المداورة الأسلوبية التي تضمن البعد من المباشرة، فعلى سبيل المثال تتعمد الشاعرة في قصيدتها الأولى بعنوان "لن تموت هذا الخريف"، إذ تتشكى من أمراض أصابت ذاتها، أن تخاطب كائناً آخر متلبسة قناع المخاطب والمخاطب، على السواء. ولا يلبث السياق أن يبين أن هذه الأمراض التي تشكو منها، وتتوقع الشفاء منها، إن هي إلا خيبات، وحنين إلى ماض طفولي انطوى إلى غير رجعة، ورغبة عبثية باستعادة "أناها" القديمة. "تستطيع أن تشفى/ من جرح أصابك/ حين مررت بالسكين على إصبعك/ أو بالحب على قلبك... تستطيع أن تشفى/ من ذكرى ما زالت تضيء ليلك/ ومن وردة في حديقتك... وتستطيع أن تشفى/ من طريق إلى البحر/ لم تعد تصل إليه/ حتى في خيالك..." (ص:9-10)، "ماذا تبقى مني الآن؟" تسأله/ لم أعد أعرف من أنا" (ص:12).
ولكن وسط هذا الجو من التشكي، تنهي الشاعرة قصيدتها بيقين ثابت في أن حدود عالمها لن تموت: "حدود عالمي/ لغتي التي/ لن أتركها تموت/ هذا الخريف" (ص:12). وإذ يمضي القارئ في تقصي الموضوعات التي تناولتها القصائد، على امتداد المجموعة، يجد أنها تتوزع على ثلاثة أقطاب غير متساوية في قيمتها، وهي مكانة الخيال (طرقات لخيال واحد، مثلاً) في بناء عالم مواز للواقع: "على الطرقات اللامتناهية/ في الخيال الشاسع/ أبني وأهدم/ عوالمي الخاصة" (ص:15)، بقدر ما يعينها (الخيال) على التأمل بالكائنات الطبيعية، وتقديمه على الذاكرة.
أما القطب الثاني فهو مكانة الغنائية التي تترجمها مشاعر الأنا الدفاقة حباً، أو ألماً من غياب الحب (ثقوب، مثلاً): "أشرع للحب/ صدري الممتلئ بالثقوب/ فأصير ناياً/ كلما لفحتني ريح بعيدة/ لها رائحتك" (ص:30)، أو تشخيصاً لكيان حب (كيان/حب، ص:96-100) خالص تكنه لابنها، بلغة ذلك الفيض الوجداني الملازم لأفعال الأمومة الحاضنة والحاضرة. ولكن اللافت في هذا الشأن أن الشاعرة تبدي اقتداراً على تنمية الغنائية الخالصة، في ابتداعها حوارية سردية نثرية شعرية بينها وبين الحياة (ذراعان لعناق قليل، ص:135-138) محورها صراع الحب للبقاء والنجاة، عبر قصيدة عنوانها "ذراعان لعناق طويل" (ص:135-138).
مثلما تترجمه حزناً باعثاً على الدمع (والدمع ماء أيضاً، مثلاً): "الأغنية التي أبكتني كثيراً/ صارت تبدو خفيضة وبعيدة/ لقد غمر الماء المالح/ كل الذكريات" (ص:35)، "وكان الحزن يبدو/ حاستنا الوحيدة" (ص:72-73)، "وفي هذا اللحن العميق/ في خلفية حياتي/ تعزفه الأشجار اليابسة الآن/ في غابة/ كانت/ قلبي" (ص:79).
في حين أن القطب الثالث هو البحث عن هوية الذات وسط إطار من الغربة (تيه، تيه أيضاً، ص: 74-75)، وطرح أسئلة كثيرة عن معنى العالم، أو عبثيته، وعن تلازم الشعور بالوحدة مع الموسيقى (موسيقى ووحشة وانتظار طويل، ص: 144-147)، وغيرها من الأفكار التي تحشد لها الشاعرة قدراً كافياً من الصور الشعرية، والمشاهد، ومعجماً دالاً على مشاعر متباينة، وعوالم قاب قوسين من التلاشي، بالنسبة إليها، مثلما تحشد لها تراكيب خاصة تترجح بين تكرار الصيغ لتنمية قصائدها النثرية الطويلة نسبياً وذات البنيان الخيطي القصيرة، وبين تنويع الصيغة الصرفية لفعل مفتاحي واحد في الجملة الشعرية (أترك القطار يغادر، ص: 113-118) حيث يتواتر فعلا الأمر والنهي 45 مرة على مدار القصيدة، ويشكلان نواة لبنيان القصيدة.
في تجربة الشاعر المغربي عبدالجواد العوفير (1980) ما يختلف به عن الشاعرة أصالة لمع، في كتابه الجديد الصادر عن دار "الراية" بعنوان "سماء بضفيرتين"، وما يستوجب التنبيه والإشارة إليه، من ذلك أن الشاعر يدخل القارئ إلى نوع الهايكو (وهمي عال، ص: 7-8) بقدر أدنى من الصور الموحية، على ما يدعو إليه النوع، بتعريفه الياباني، وعنيت به أن تكون قصيدة الهايكو مؤلفة من ثلاثة عناصر، مقسمة وفق تقسيم مقطعي:5/7/5، أي أن كل سطر من الثلاثة يراعي هذا الترتيب (خمس وحدات صوتية، فسبع، ثم خمس)، ولا يشترط في الكلام أن يكون صوراً شعرية بيانية مبتكرة، على ما يفترض بالشعر العربي، وإن يكن شعراً منثوراً، أو قصيدة نثر. "ألف الرفاق/ في لفافة واحدة/ وأدخنهم ببطء"، (ص: 7).
ما أوردته أعلاه قد لا ينطبق على مجمل القصيدة ذات المقاطع الثلاثة (قصيدتا هايكو، ومقطعة شعرية من ثمانية أسطر) فحسب، من ناحية اختلاط نوعي الهايكو، وقصيدة النثر، وإنما على سائر القصائد الأولى في مجموعة الشاعر العوفير التي يسقط على بعض من قصائد النثر فيها شرط التخفف من الصور الشعرية، ويدع للبعض الآخر حرية صوغ الصورة الشعرية على الطريقة السوريالية التي لا يتردد الشاعر في التصريح بقربه منها (صباح كثير يتساقط من جيب الشيخ بروتون، ص: 30). ولكن هذا لا يعني أن الشاعر العوفير وفق في ابتداع عالم متخيل من مجرد الاستعانة بالمنهج السوريالي، بيد أن اللافت في أسلوب الشاعر، الدال على عالمه، هو لعب التداعي والتوازي المتوازن والتكرار والقصيدة اللغز، ولعب التضاد (الطباق) والنفي للإثبات، وغيرها. "الزهرة التي تطلع في الغرفة سراً/ أسميناها فضولاً/ الغرفة التي تطير بهجة/ كلما عشقنا امرأة.../ البهجة التي تزورنا مثل متصوف صغير/ بثياب مبللة بالمطر/ المطر الذي يرقص فوق زنك الغرفة/ أسميناه الإله المتمرد..."، (ص: 35).
ولا يعني هذا الأمر أن الشاعر عبدالجواد العوفير أهمل طرح الموضوعات، في شعره، وإنما آثر جعلها في المقام الثاني، بعد الإبانة عن جهده الأسلوبي الحامل ملامح عالم محدود الخطوط والأمكنة والشخصيات والرموز (البار، الغرفة، غابة، ملاك، شجرة، سماء، مطر، ليل، جندي، المرأة، عصفور، فتاة، لوتريامون، بريتون، عروة بن الورد، جوكاندا، الحقيقة، البحر... إلخ)، والناظر في إشكالية الزمن وعجز الكائن عن تحقيق رغباته في خلال برهة حياته القصيرة: "قصيرة حياتنا يا الله/ قصيرة أيامنا أيتها اللغة/ الأيام الصامتة كملائكة"، (ص: 55).
لا غنائية طافحة في شعر العوفير، إنما ثمة وجدانية مخففة، تتيح للذات أن تحضر من أجل أن تطلق أحكاماً دالة على مزاجية الشاعر، ووحشة كائناته وشخوصه، ونظرته العالية والباردة إلى أحداث العالم وانتظاراته، ووجوده. يقول: "أركض في ذاكرتي/ أركض، ولا أصل/ كل عالم خارج ذاكرتي لا يوجد"، (ص: 87).
"وحول العالم الأول"
في المقابل للشاعر علي شمس الدين، المقيم في لندن، رؤية شعرية وأسلوب يترسخان سريعاً، بعد مجموعته الشعرية الأولى "نزول الألفة"، وشراكته مع بلال خبيز في كتابهما "مدينتان"، ويتبلوران أكثر في مجموعته الأخيرة "وحول العالم الأول" الصادر حديثاً (2024) عن دار راية للنشر. وأول ملمح في هذه الرؤية الشعرية، بعد قراءة المجموعة الأخيرة هو أن السمة الشعرية، أو الشعرية التي قد يطلبها القارئ من النص الشعري إنما هي مستخلصة حكماً من سياقه، أو من دراميته الكامنة، وقد لا يكون محمول الشعر بالضرورة ظاهراً، أو متمثلاً في صور بيانية وأخرى تركيبية وإيقاعية لافتة، وغيرها.
ودليلنا على ذلك أن القصيدة الأولى، في المجموعة، وهي بعنوان "السلم الأهلي" هي بمجمل بنيتها أقصوصة، ذات إطار مكاني وزماني وحبكة قصصية بسيطة: "في يوم أحد مشمس/ كان اللقاح قد أفرز عداواته/ خرجت إلى الشوارع..."، (ص: 9). مفادها أن المتكلم - وهو الشاعر نفسه - صادف لدى خروجه إلى الشارع، جماعة "تهتف لفلسطين"، ولما انخرط في صفوف أفرادها، وبلغوا مكاناً آخر، صار هتافهم موجهاً ضد اللقاح، فما كان منه إلا أن هتف تأييداً لرجال الشرطة! "وقف رجال الشرطة في الوسط/ ينظمون انتقال الحشدين بسلمية عالية/ بلطف بالغ يلأمون جرحين لا متجانسين،/ عندها باغتني البديهي/ وهتفت للشرطة والسلم الأهلي"، (ص: 9).
يجد القارئ مثيلات للقصيدة عديدات في ما تلا من صفحات الكتاب، قصائد نثر ذات نمط سردي غالب، مطعم بصور شعرية مبتكرة ذات دلالات متفاوتة العمق، ترفدها مشاهد مقتطعة من المرجع الواقعي، والأهم من ذلك أن كلاً منها تثبت في ذهن القارئ فكرة جديرة بالتأمل والإحاطة وإعادة التقييم، بما يتجاوز الحدث المنقول في النص. ولعل في هذا تكمن شعرية النص وأكثر. ومن هذا القبيل يمكن الإشارة إلى بعض القصائد - الأقاصيص المتفاوتة الحجم، من مثل: المهاجرون الأعداء، قريني الفارسي، شعر في نيويورك، سوق المواهب، كي تنام، وغيرها. ولئن أمكن مشابهة هذه القصائد الأقاصيص بما بلغنا من أعمال الشاعر اليوناني ريتسوس - وبأعمال بودلير في قصائده النثرية ذات الطابع السردي - فإن إصرار الشاعر على تشكيل الأسطر في جمل قصيرة داخل قصائده كان علامة دالة على قصده بشحن كلامه قدراً من الانفعالية والشعرية مما يرقى بها عن درجة السردية المجردة. وعلى أي حال فإن للصور الشعرية المبثوثة في متن النص السردي دوراً أساساً في تكوين شعرية النص: وهو أن تبث قدراً من الغرابة والمفارقات والانفعالات والإحالات التي تكفل جميعها إبعاد الذهن عن مرجعيات العالم الواقعي.والحالة هذه ليست جميع قصائد المجموعة "وحول العالم الأول" مسكوبة في قالب سردي غالب، وإنما ثمة قصائد لا بأس فيها، تنعم بهذا الخليط النادر والعجيب الذي يتقنه الشاعر علي شمس الدين، في جمعه بين الخبرات الإنسانية التي تلامس الكونية، وبين دقة في رسم مناخ القصيدة العاطفي، وبين قناع من الموضوعية رقيق، وبين التقاط ذكي ولماح لمشاهد في صلب المناخ الشعري الدافق، وبين اقتدار لغوي وأسلوبي سيرتقي إلى مدى أعلى، مثالنا على ذلك قصيدته "لندن" (ص: 37-41)، يقول:
"في سعينا المرهق فيها/ نكتسب عادات إيجابية/ كالإدمان على مستقبل مشرق،/ باب الغواية يفتح فتدخل منه/ أساطيل الوعود والتوقعات/ في رسومات بيانية/ تقيم في الوجوه/ على قوس التحقق المتين/ تحت العيون..."، (ص: 37). "بلمح البصر، ذهاباً وإياباً/ بين الصبا والكهولة/ مع اللعاب والطقوس والقبل/ في تمرين على الانقضاء/ بمساعدة مبرمجة وأحياناً إرادياً/ تفادياً لأخطاء عشوائية/ تطوف بغبطة سائح/ بين الرؤى والخرافة والتاريخ..."، (ص: 40).
لا يرى الشاعر ضيراً في مقاربة التيمات ذات البعد التاريخي، والسياسي (تصحيح تاريخي)، أو البيروقراطي (أرباع)، أو غيره. ولكن التركيز الأعظم كان على خلطة التيمات والأبعاد، بل وإشباعها جميعها، في قالب أوركسترالي متناغم وشائق، يخدم فيه كل بعد الأبعاد الأخرى، لمصلحة شعرية فريدة.