شيء من التاريخ: خزانة الرعب
25-أيلول-2023
عامر بدر حسون
من بين صفات بغداد في ايام عزها (ايام العباسيين) صفة تفردت بها عن بقية دول العالم القديم.
وهذه الصفة تتمثل بامتلاك دار الخلافة لخزائن (غرف) رئاسية كثيرة ومتنوعة، فثمة خزانة للجواهر واخرى للعطور وغيرها للنوادر والوثائق وكل ما يتعلق بمقتنيات الخليفة الثمينة.
وكان لهذه الخزائن عمال يقومون على خدمتها ورعايتها والعناية بها وحراستها.
لكن ثمة خزانة كبيرة من بين هذه الخزائن، تثير القشعريرة في النفوس والياس من النفس البشرية التي انتهت في غالبيتها الى ان تكون في "اسفل سافلين" على حد الوصف القرآني.
والخزانة التي تصطف مع الخزائن الاخرى التي كان يزورها الخليفة بين حين واخر كانت خزانة الرعب المسماة بـ"خزانة الرؤوس"!
وهي تضم الرؤوس المقطوعة بأمر الخليفة للصوص وقطاع طرق ورجال فكر احرار واصحاب عقائد اضافة الى وزراء وخلفاء لم ينجحوا في ابعاد رؤوسهم عن خزانتهم المفضلة، التي ملاوها برؤوس الخلفاء السابقين الذين نجحوا في الانقلاب عليهم.. وكلما اتت امة لعنت التي قبلها!
وظاهرة قطع الرؤوس بدأت في بدايات الدولة الاموية التي كثر فيها قطع الرؤوس والتجوال بها بين المدن قبل تقديمها للخليفة.
ووصف عبد الملك بن عمير مشهدا مثيرا للتأمل والفزع عندما رأى جلوس الخليفة الاموي عبد الملك ابن مروان في قصر الامارة في الكوفة وبين يديه راس مصعب بن الزبير فقال:
"رأيت رأس الحسين بن علي بين يدي ابن زياد في قصر الامارة، ثم رأيت رأس ابن زياد لعنه الله بين يدي المختار، ثم رأيت راس المختار بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت راس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك بن مروان وكل ذلك في 12 عاما فقط!
ويبدو ان هذه الظاهرة وجدت من يطورها في الدولة العباسية.
وسنرى في نهاية المقطع التالي كيف ان هذا المشهد اعيد بشكل اكثر بشاعة، يوم تم تخصيص خزائن (غرف او قاعات) للرؤوس المقطوعة، وهو مقطع من سلسلة مقالات نشرها المرحوم ميخائيل عواد في مجلة الرسالة المصرية عام 1942 وقال فيه:
" ان الخزائن كانت واسعة ووضعت فيها الرؤوس في أسفاط من البردي أو الخيزران ونضدت في رفوف. فبعد أن يؤتى بالرؤوس، توضع بين يدي الخليفة فيشاهدها هو ورجال دولته، ثم تنصب أياما على بعض الاماكن البارزة من البلد فيراها الناس و تكون عبرة لمن أعتبر، و تحط بعد ذلك و تسلم إلى الموكل بأمرها، فيعمل على إصلاحها وتنظيفها وتفريغ أمخاخها، ورفع باقي أجزائها المعرضة للتلف و الفساد، ثم طليها بالأدوية القابضة الماسكة لضمان بقائها، كالصبر والكافور والصندل، وإلصاق رقعة صغيرة على كل رأس كتب عليها أسم صاحبه، وتاريخ "قطافه" وما جدر ذكره من سبب القطع، وقد أضيف إلى بعضهم العبارة التالية (هذا جزاء من يخون الأمام و يسعى في فساد دولته) أو (هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته)!
وقد انفردت هذه الخزانة على ما بلغنا بوجود يد واحدة هي اليد اليمنى لأبي علي بن مقلة الوزير، و(الخطاط الشهير)، وهو الذي قال فيها بعد قطعها (قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن دفعتين، وها هي تقطع كما تقطع أيدي اللصوص"!
ولم تتح له فرصة ان يكتب انها اليد التي وقعت، يوم كان وزيرا، على قطع الرؤوس والكتابة عليها بخطه الجميل.
ومن ابرز الرؤوس في تلك الخزانة راس الامين الذي قتله المأمون في صراع الاخوين على خلافة والدهما هرون الرشيد!
ولا احد يفهم سر ولع الطغاة واعجابهم بهذا الفعل الشنيع لدرجة تقليدهم، كما حصل في التسعينات على يد صدام وابنه عدي عندما امرا بقطع رؤوس بعض العراقيات بتهم لا يمكن التأكد من صحتها.
وبعد قراءتي لتلك المقالات القديمة، التي يثير ما فيها الغضب والاشمئزاز، ذكرت منها هنا (مع الاعتذار الشديد من القراء) ما يمكن اعتباره الاخف في وحشيته، لأضعه امام الباحثين والكتاب الذين يباهون بصرخة "وامعتصماه" وعدل السلف الصالح، كي يتأنوا ويخففوا من مغالاتهم في ذكر فضائل اصحاب تلك الخزانات المرعبة!