ميثاق مناحي العيسى
لعل الجميع يلاحظ أن منظومة القيم، ولاسيما القيم الوطنية، تشهد تراجعًا خطيرًا داخل المجتمع العراقي، إذ تنامت الولاءات أو الهويات الفرعية بعد عام 2003 بشكل كبير جدًا كـ (القومية، الطائفة، المذهبية، الحزب، الانتماء المرجعي، العشيرة، الأسرة)، فضلًا عن الانقسامات السياسية ذات الانتماء المذهبي الواحد، كالانقسام بين الاحزاب السياسية ذات الانتماءات المرجعية الدينية المختلفة (التيار والإطار) أو الانقسام بين عراقيي (الداخل والخارج)، أو غيرها من الانقسامات الأفقية والعمودية (ابناء السفارة، الجوكرية، ذيول، بعثية، دواعش...) وغيرها من الانقسامات التي تؤشر بشكل واضح وصريح على الانقسام السياسي والمجتمعي.
هذه الانقسامات القت بظلالها على مفهوم الوطنية والانتماء الوطني والاندماج الاجتماعي، وعليه فإن إصلاح هذه المنظومة، يعد مدخلًا اساسيًا في معالجة الاحساس بالانتماء الوطني ومن ثم معالجة ظاهرة العزوف الانتخابي، وتحمل المسؤولية الوطنية وما يرتبه مفهوم المواطنة من حقوق وواجبات؛ لأن إعادة الثقة في العملية الإنتخابية ليست مرهونة بلحظة تاريخية، بل مرهونة بثقافة يجب أن تبنى على المدى البعيد، فهي تربية سلوكية يجب أن تبدأ في المدرسة ولا تنتهي في الأسرة والمجتمع.
فالخلل ليس سياسيًا فقط، بقدر ما هو خلل في المواطنة والانتماء الوطني قبل كل شيء؛ فعندما نرى بعض العراقيين يرفعون إعلامًا لدول جوار أو دول إقليمية في المناسبات الوطنية، أو يدافعون عن تلك الدول، أو نشاهد محطات إعلامية وإعلاميين ومحللين سياسيين عراقيين وبرامج إعلامية وسياسية، تدافع عن دول جوار وإقليمية، متهمة بدور سلبي في العراق، أو عن دور الولايات المتحدة، فهذا خلل في فهم المواطنة وإشكال عميق فيها، أو أن يتم التنمر والاستهزاء اتجاه من يحمل أو يحاول أن يروج للمفاهيم الوطنية، أو عندما نرى تلميذًا في المدرسة أو الجامعة يقلل من قيمة النشيد الوطني، فهذا خلل في التنشئة السياسية والاجتماعية والوطنية، وعندما يهاجر الشباب العراقي إلى الخارج، فهذا خلل في الشعور والانتماء الوطني، وعندما نجد الترهل في الوظيفة العامة او في مؤسسات الدولة بشكل عام، أو في تحمل المسؤولية الوطنية في الشارع والدائرة والمدرسة والجامعة، او أن تصبح الوظيفة فقط لكسب المال دون أي مسؤولية اخلاقية واجتماعية ووطنية، فهو خلل في الانتماء الوطني والاحساس بالهوية الوطنية. فالمواطنة الحقة، هي عملية مركبة من حقوق والتزامات، فإذا كان من مسؤولية الدولة والحكومات وصانع القرار، إيجاد آليات لتوسيع دائرة الإشراك والمشاركة ووضع الحلول السياسي لمعالجة ظاهرة العزوف الانتخابي، فإن على باقي الفاعلين (المحطات الإعلامية، المؤسسات التربوية والتعليمية، ومنظمات المجتمع المدني، الأسرة... وغيرها) أن يلعبوا دورهم البَّناء في التربية والتنشئة والتوعية وإشاعة روح المسؤولية وحس المواطنة.
بيَّنا في المقالات السابقة طبيعة تأثير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على السلوك الانتخابي، من خلال المستوى المعيشي والقدرة الشرائية والنظام التعليمي، بكونها عوامل مؤثرة في هذا السلوك، وأن تحسين ومعالجة هذه الأوضاع من شأنه أن يؤدي إلى رفع نسبة المشاركة السياسية. اما بالنسبة للأمية في العراق وطبيعة تأثيرها "كما ذكرنا سابقًا" ربما لا تعد سببًا في العزوف الانتخابي، بقدر ما تزيد من نسبة المشاركة في العراق؛ لأننا نشاهد خلال الاستحقاقات الانتخابية، توافد عدد كبير منهم لصناديق الاقتراع، ولاسيما في القرى والارياف وكبار السن، فمرة يدفعهم الشعور بالمسؤولية والمواطنة وحب الوطن، ومرة يدفعهم الانتماء القبلي والشحن العشائري والديني والطائفي والسياسي.
ولعل المتتبع للانتخابات العراقية، يرى بأن عنصر الشباب، النسبة الأكثر عزوفًا عن الانتخابات؛ لهذا من الضروري الاهتمام بهذه الفئة، وضرورة تعريفهم بالانتخابات وبدورهم في المشاركة السياسية في تغيير الوضع السياسي وتغيير الاحزاب الماسكة بالسلطة، وضرورة التركيز على مشاكلهم ومتطلباتهم وتوعيتهم بقضايا الدولة، وتخفيض نسبة البطالة في صفوفهم؛ بزيادة فرص العمل وتطوير القطاع الخاص والقطاعات الأخرى، ولاسيما قطاع الزراعة والصناعة، التي من شأنها أن تنَّشط القطاع الخاص والاقتصاد الوطني، وتزيد من خفض نسبة البطالة بين الشباب وتخفيض نسبة الفقر بشكل عام؛ وهذا بالتأكيد سينعكس إيجابًا على المشاركة السياسية من خلال الرضا والقبول والقناعة المجتمعية بالعملية السياسية والاداء الحكومي وانعكاسه على الدولة والمجتمع.
من الضروري جدًا أن تتكاتف بعض شرائح المجتمع، ولاسيما من القطاعات التعلمية والتربوية مع منظمات المجتمع المدني والجهات ذات العلاقة مثل مفوضية حقوق الإنسان ومفوضية الانتخابات والجهات المعنية بتنمية الشباب وغيرها من الجهات الرسمية، بتثقيف وتوعية شرائح المجتمع في المدراس والكليات والجامعات والمناسبات الدينية، على ضرورة المشاركة السياسية الفعالة ودورها في التغيير السياسي؛ وذلك من خلال إقامة الورش والحلقات النقاشية والدورات التدريبية.
كأن يكون هناك دورٌ إعلامي أوسع وأشمل ولفترات طويلة فيما يخص الحملات الإعلامية المقامة من قبل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وتكثيف الندوات والجلسات واللقاءات المقامة على مستوى كل قضاء أو ناحية ومخاطبة كل فئة حسب طبيعتهم الجغرافية وعاداتهم وتقاليدهم لكسب ود الشارع العراقي وتعريفه بأهمية مشاركته السياسية على المستوى الوطني والشرعي والاخلاقي.
كذلك التعاون بين المفوضية العليا للانتخابات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني في سبيل تعريف الناخب بأهمية صوته في العملية الانتخابية، وأنَّه كلُّما ارتفعت نسبة المشاركة الانتخابية، كلما كانت احتمالية التشكيك بحدوث التزوير أقل؛ لأنَّ الناخب قد يمارس حقَّه الانتخابي بنفسه، فضلًا عن توعية وتثقيف الناخبين بإجراءات وعمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بصورة عامة، وبكل تفاصيلها التي تخص العملية الانتخابية وبيان مدى نزاهة وشفافية هذه الإجراءات، التي تقتل كل فرص التزوير داخل صندوق الانتخابات، او في آلية اجراء العد والفرز، فضلاً عن تثقيفهم على إجراءات وآلية الاقتراع؛ لأن الكثير من شرائح المجتمع تعتقد بأن نتائج الانتخابات، ربما تكون معدة سلفًا، وهذا يمنعهم من المشاركة في الانتخابات.
بالمجمل، لا يمكن أن تعالج حالة العزوف الانتخابي أو المقاطعة الانتخابية بإصلاح جزئي أو بحلول فوقية دون النظر إلى اصل وجذر المشكلات التي اوصلت المجتمع إلى هذا الكم الكبير من العزوف ومقاطعة الانتخابات، وواهم من يعتقد بأن هذه المقاطعة لا تؤثر على شرعية الانتخابات والنظام السياسي، ولاسيما أن المقاطعة او العزوف الانتخابي يكاد يكون القاسم المشترك بين مكونات الشعب العراقي بمختلف توجهاته السياسية والدينية والمذهبية والقومية، فكيف اذا كانت هناك مقاطعة سياسية للانتخابات مدفوعة بشحن الانقسام السياسي والانقسام المذهبي الافقي ومصادرة الاستحقاق الانتخابي...؟