بغداد - العالم
تُعَدُّ القصة في العراق جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العربية الحديثة، حيث واكبت الحركة الوطنية طيلة عهودها. لقد ارتبط العديد من كتّابها بالحياة العملية لهذه الحركة، مبرزين قضايا المجتمع العراقي ومشاكله في نصوصهم الأدبية. ومن بين هؤلاء الكتّاب، يُعتبر عبد الملك نوري واحدًا من أبرز الرواد الذين ساهموا في بناء التراث القصصي الحديث في العراق.
ظهر فن القصة في العراق في بداياته بطابع حماسي وخطابي، حيث كان يُعبر عن قضايا الشعب ومعاناته. ونتيجة لصعود الحركة الوطنية، كان الكتّاب يسلطون الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية التي تهم الشعب. في هذا السياق، يبرز اسم عبد الملك نوري كأحد الرواد الذين تمكنوا من الانتقال بالقصة القصيرة من أسلوبها التقليدي إلى أسلوب أكثر عمقًا واحترافية.
بدأ نوري مسيرته الأدبية في الأربعينات من القرن الماضي، حيث نشر العديد من القصص في الصحف والمجلات. وفي هذه الفترة، استمد إلهامه من الواقع العراقي المليء بالقصص والحكايات، مُتلمسًا ملامح الفن القصصي الحديث. كان نوري يتناول مواضيع تعكس التحديات اليومية للناس، مثل الفقر والجهل والمرض، مما أضفى طابعًا واقعيًا على كتاباته.
لم يقتصر نوري على توثيق الواقع، بل أسهم في إدخال أسلوب تيار الوعي إلى القصة العراقية، مُستفيدًا من القراءات المتنوعة التي تناولت الأدب الغربي والعلوم النفسية، خصوصًا مدرسة التحليل النفسي. لقد استلهم نوري من تجربته السياسية والاجتماعية، وعكس آلام المجتمع العراقي وأحلامه من خلال شخصياته، التي تمثل مختلف شرائحه.
تجربته الغنية كسياسي واجتماعي منحت قصصه بُعدًا إضافيًا. كان نوري يكتب من منظور عميق، مستحضرًا معاناة الإنسان في ظل الظروف الصعبة. هذه الخلفية ساعدته في تصوير الشخصيات بصورة واقعية ومعبرة، مما جعل من قصصه أداة فعّالة للتعبير عن الأزمات التي واجهتها البلاد.
تُعَدُّ أعمال نوري القصصية، مثل "نشيد الأرض"، نقطة تحول في القصة العراقية. فقد انتقل بها من التصوير الخارجي إلى عمق النفس الإنسانية. لم تكن كتاباته مجرد سرد للأحداث، بل كانت دراسة متعمقة لمشاعر الشخصيات وتجاربها. اتسمت قصصه بالعمق والوضوح، حيث كان يستكشف أعماق النفس البشرية ويعرض مشاعر الشخصيات بشكل صادق ومؤثر.
كما برع في استخدام عناصر الأدب القصصي، مثل التركيز والإيجاز، مع الالتزام بمبادئ الوحدات الثلاث - الحدث، الزمان، والمكان. وبذلك، ساهم نوري في تعزيز الفن القصصي العراقي ورفع مستواه الفني والجمالي..
رغم انقطاعه عن الكتابة لعقود، إلا أن أعمال نوري لا تزال تُدرس وتُقرأ. يُعتبر كتاب "هاتف الثلج" تجميعًا مهمًا لنتاجه، مما يُعزز من مكانته كأحد الأعلام في الأدب العراقي. لقد تمكّن هذا الكتاب من تسليط الضوء على بداية مسيرته الأدبية، حيث احتوى على قصص لم تُنشر من قبل، مما يُعطي القارئ فرصة لمتابعة تطوره الفني والنضج الفكري.
بالإضافة إلى ذلك، تُعَدُّ قصصه أيضًا مرجعًا للكتّاب الجدد، حيث تمثل نماذج للكتابة الفنية التي تدمج بين الوعي الاجتماعي والفني. لذا، فإن تأثيره لا يقتصر على جيله، بل يمتد إلى الأجيال اللاحقة التي استفادت من تجربته وكتاباته
يُعَدُّ عبد الملك نوري رمزًا من رموز القصة القصيرة في العراق، حيث جمع بين الموهبة والوعي الاجتماعي، وأسس لكتابة قصصية تُعبر عن الإنسان ومعاناته في ظل التحديات التي واجهها المجتمع العراقي.