عذب نفسك بنفسك!
2-حزيران-2024

عامر بدر حسون
ودعت اهلي فجر يوم 2 عشرة 1978 خارج المطار. فعلت ذلك حماية لهم مما يمكن ان يلاقوه ان تم القاء القبض علي. وغادرت سيارتهم الكبيرة قبل ان ادخل للمطار. كانت في اوراقي دعوة وصلتني من مهرجان قرطاج في تونس وكنت انوي استخدامها ان سألني احد عن سبب سفري. وكانت معي فقط حقيبة صغيرة حملتها معي في الطائرة .. حتى ان تم القاء القبض علي ففيها كل ما يحتاجه السجين. اما دفتر التلفونات والعناوين الصغير (وهو يعادل في اهميته يومذاك اهمية الموبايل في ايامنا هذه) فقد وضعته في جواربي ولبست عليه الحذاء.. ذلك ان العثور عليه يعني العثور على اسماء وتلفونات كل الاصدقاء والاقارب وبالتالي القاء القبض عليهم باعتبارهم خلايا وشبكات حزبية! لم افكر في ذلك الفجر بانني اركب الطائرة لأول مرة في حياتي وهل علي ان افرح او اخاف من التجربة الاولى.. فكل تفكيري كان محصورا بلحظات تفصل بين الموت والحياة.
وسارت الامور على خير.. وجاء زمن الانتظار قبل صعود الطائرة وهنا اصبحت الدقائق اثقل من كابوس على صدر طفل. ففي الانتظار كنت اناقش نفسي وانحدر بها الى احط ما في المشاعر البشرية:
لو نادوا علي الان فكيف سأتصرف؟ وما هو اول رد فعل اقوم به عند اعتقالي؟
لم يكن هناك ما يمكن فعله في الواقع فكل اوراقي تقول انني صحفي ولا فائدة من القول انني لا اشتغل في السياسة. وبدأت اضغط على اجزاء من جسدي بقسوة بالغة لأرى مدى وامكانية قدرتي على مقاومة التعذيب. وهي تجارب بدأت بها من ليلة البارحة!
وتذكرت صديقي القاص والروائي طامي عباس يوم كنا في السابعة عشرة من العمر، وسمعنا بانشقاق القيادة المركزية عن الحزب ومناداتها بالكفاح المسلح.. وكيف انه كان وقتها يريد الالتحاق بهم، وهو حاول ان يثبت لي، ولنفسه، قدرته على الصمود بوجه التعذيب فاشعل سيكارة واطفأها بيده بشكل بطيء دون ان يصرخ او يتراجع! كان اصحاب الشوارب البعثية وبدلات السفاري، يحدقون بالوجوه بطريقة استعلائية واستفزازية ودونما سبب سوى دفع من ينظر بوجوههم الى الاستسلام وادارة وجهه جانبا. ولم تتوقف عملية التعذيب الذاتي الا عندما نادونا للصعود للطائرة.
وفي الطريق للطائرة شعرت بالعار للمهانة التي عرضت نفسي لها من خلال ذلك التعذيب الذي مارسته على جسدي بسرية وقسوة وصمت. وعندما جلست بالطائرة بقيت انتظر من يأتي وينادي باسمي وينزلني منها.
وتفاقم شعوري بالعار من انشغالي بخوفي وتضييعي فرحة التقدم خطوة نحو الخلاص والحرية وركوبي الطائرة لأول مرة في حياتي. كنت في غاية الاضطراب والتخبط في مشاعري، رغم ان "خطتي" رقم واحد كانت تعطيني احساسا مبالغا فيه بالشجاعة والسيطرة على كل المستجدات.
وكانت الخطة تقضي ان ادفعهم لقتلي قبل ان يأخذوني للزنزانة والتعذيب..
وكنت سأصل لهذا بخطوات مبهمة، تركت تحديدها للظروف، ومنها ان اقاوم اعتقالي وابدا في ضربهم ومحاولة الهرب منهم، او ان اتظاهر انني احمل سلاحا كي يطلقوا النار عليّ فأتخلص من تجربة السجن والتعذيب! وكان الموت يبدو لذيذا وبطوليا اذا ما قارنته بانهياري تحت التعذيب وافشائي اسماء اصدقائي ورفاقي.. خصوصا، بل وتحديدا، انني في مجتمع يقدس الموت البطولي ويحتقر الضعف البشري. مجتمع تختلط فيه ارقى واحدث النظريات الانسانية والسياسية بأحط القيم الاجتماعية واكثرها توحشا. فالمجتمع العراقي (السياسي تحديدا) لم يكن يتساهل مع من يعتقل ويعترف تحت التعذيب على جماعته. ولطالما سمعت من يردد:
- لو ميت احسن له! وكان هذا المجتمع يكمل مهمة النظام وجلاديه في تحطيم الضحية بعزلها وتجنب الاختلاط بها بعد تجربة التعذيب والاعتراف. وكان هذا قتلا من نوع اخر ربما اكثر ايلاما من التعذيب!
واشعر بالاختناق وانا اتذكر تلك الدقائق التي سبقت الاقلاع نحو الحرية او المجهول.
وادرك الان ان اسوأ ما يحل بمجتمع هو الخوف وشيوعه فيه لدرجة ان يتنفس الناس هذا الخوف فيبدو جزءا من الهواء الذي يستنشقونه.
فلقد تركني الخوف اساعد جلادي عليّ، فاعذب نفسي بيدي ولا تعود في راسي من فكرة مبهجة اكثر من فكرة الموت خلال محاولة هربي ومواجهتي للجلادين!
والواقع انني طالما تصرفت كمقامر في تسيير حياتي، فقد كنت ادفع الامور الى حدها الاقصى (الموت او الخسارة الكاملة) في كل الخيارات حتى اصل الى ذروة الياس من الحياة.
وكان تسليمي باستعدادي للموت يمدني بقوة لم اعهدها في نفسي، فيما كان التعلق بالأمل الزائف يدفعني للوهن والضعف والتوسل من اجل المد في حياتي ولو لدقائق!
ويا لها من حياة قاسية وملتبسة تلك التي فرضها علينا التعاون بين نظام حكم دموي ومجتمع قاس ومتخلف في انسانيته.
وطارت الطائرة ولا ادري كم من حطام بشري كان فيها؟
وكم احتاج ذلك الحطام من جهد ووقت لترميم روحه.. إن فعل؟

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech