عندما رفض كبار الموسيقيين الحركة الأجمل في سيمفونية سكريابين
23-تشرين الثاني-2022
إبراهيم العريس
"أنت إذ تسود الأرض بكل ما لديك من جبروت، سموت بالإنسان حتى حقق أكثر الأفعال مجداً. تعالي إلى الفن أيتها الشعوب في كل مكان... ولننشد معاً نشيد مديحه". إذا كان بيتهوفن قد اختتم حياته السيمفونية بسيمفونيته التاسعة، التي أنهاها – بما يشبه الأوراتوريو – بذلك اللحن الخالد الذي وضعه لقصيدة شيللر المدهشة "نشيد إلى الفرح" – الذي بات نشيد أوروبا الوطني بعد توحيدها - فإن الموسيقي الروسي ألكسندر سكريابين، شاء هو الآخر أن يكون له نشيد خالد، يختتم به، ليس سيمفونيته الأخيرة، بل سيمفونية الأولى، لكنه مقابل "الفرح" الذي يمجده بيتهوفن في "تاسعته"، آثر هو أن يمجد "الفن" في أولاه. وهكذا كرس للفن نشيداً يغنيه صوتان أساسيان (ميتزو – سوبرانو، وتينور) وكورس. اليوم ينظر إلى هذا العمل على أنه من أجمل ما لحن سكريابين، لكن رمسكي– كورساكوف وغلازونوف وليادوف، لم يروا هذا الرأي عند نهاية القرن الـ19، حين كانوا يشكلون لجنة الاستماع لدى الناشر بيلاييف الذي كان يفترض به نشر السيمفونية. فهم أجابوا سكريابين رسمياً قائلين: "إن الحركة السادسة في سيمفونيتكم، لا يمكن تقديمها".
صدمة الخطوات الأولى
وكانت تلك الحركة هي التي تضم ذلك النشيد الختامي. في ذلك الحين كان سكريابين بالكاد بلغ الـ30 من عمره، وكان يشق خطواته الأولى. ومن هنا، وكما يفعل كل البادئين عادة، رأى أن في إمكانه أن يضع في أول عمل كبير (سيمفوني) له، كثيراً من أحلامه الموسيقية. وهكذا لحن تلك السيمفونية الأولى، التي وضع أول مخططاتها عام 1899، ثم ما لبث في العام التالي أن جرب أول عزف لها على البيانو بمصاحبة بيانو آخر من صديقه ألكسندر غولدنفايزر. وما لبث بعد أشهر قليلة أن أنجز تلحين حركاتها الخمس الأولى، بعد أن أبلغ ناشره بيلاييف أنها ستكون في ست حركات، ثم ما لبث أن أعلمه بأنه أنجزها خلال صيف ذلك العام ويكتب لها الآن التوزيع الأوركسترالي. وبعد حين عاش فترة تردد قصيرة إزاء النص الشعري الختامي. ولما كتب النص بنفسه، وجد اللجنة المذكورة ترفضه، ناصحة إياه بإلغائه كلياً. وبالفعل حين قدمت السيمفونية للمرة الأولى يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1900، بقيادة ليادوف، ألغيت منها النهاية على الرغم من كل احتجاجات المؤلف الشاب. أما المفاجأة فكانت حين نالت سيمفونية سكريابين الأولى هذه "جائزة غلينكا" التي كانت تعتبر أرفع جائزة موسيقية في روسيا. وهذا الفوز أتاح تقديم السيمفونية بكاملها للمرة الأولى في الربيع التالي في موسكو، ولكن هذه المرة تحت قيادة سافونوف. ومن يومها، وخلال السنوات التالية كذلك، تلقى النقاد هذا العمل في امتداح مدهش، إلى درجة أن كبير نقاد الموسيقى في ذلك الحين آرثر إيغلفيلد هال كتب في عام 1915 يقول "إن سيمفونية سكريابين الأولى هذه، عمل ضخم ذو جمال هائل". أما ما دفع النقاد والفنانين إلى تبجيل هذه السيمفونية فلسوف يكون النشيد الختامي حول الفن، بالتحديد، النشيد الذي رفضه رمسكي– كورساكوف ورفيقاه!
تحديث الموسيقى الروسية
بشكل أو بآخر يعتبر الروسي ألكسندر سكريابين، واحداً من أوائل الذين أسهموا في تحديث الموسيقى الروسية، أي في فتح هذه الموسيقى على موسيقى العصر، كما كان يعبر عنها شوبان في بولندا وريتشارد شتراوس في برلين والمدرسة الانطباعية في فرنسا. ومن هنا يعتبر المكمل الطبيعي لما بدأه تشايكوفسكي وآرنسكي من قبله، وإن كان يعتبر متجاوزاً لهما إلى جد ما، في مجال هذه الحداثة التي أدخلت الموسيقى الروسية إلى العالم. فإذا أضفنا إلى هذا أن سكريابين قد عرف كيف يمزج في أعماله شتى أنواع الرومانطيقيات التي تأثر فيها بالفولكلور الروسي، أمكننا أن ندرك الدور الكبير الذي لعبه في مسار الموسيقى الروسية، وكيف أنه كان الممهد الأساسي لولادة الأساليب الأكثر حداثة على يد شوستاكوفيتش ورخمانينوف وبروكوفييف.
موسيقى ما قبل التخرج
ولد ألكسندر سكريابين في موسكو في 1871، وهو سيموت في تلك المدينة نفسها يوم 27 أبريل (نيسان) 1915. ومنذ طفولته أبدى اهتماماً بالموسيقى لا سيما بالعزف على البيانو، وظل على اهتمامه حتى حين التحق، بناء على مشيئة أهله ذوي التوجهات العسكرية، بكلية الضباط ليصبح جندياً، إذ التحق في الوقت نفسه بالكونسرفاتوار، حيث أضحى تلميذاً لسافونوف وآرنسكي. وفي 1892، حين تخرج سكريابين في الكونسرفاتوار، كان قد بدأ التأليف الموسيقي فعلاً وكتب للبيانو تلك المقطوعات التي ستشتهر بسرعة وتحمل، في سلسلة أعماله، الأرقام 1، 2، 3، 5 و7. أما الحفل الأول الذي أقامه في سانت بطرسبورغ وعزف خلاله أول أعماله، فقد حقق له على الفور شهرة لا بأس بها وضعته على اتصال مع الناشر الموسيقي بلياييف، الذي راح منذ ذلك الحين ينشر له أعماله، وينظم له حفلات عزف في شتى مدن أوروبا الغربية.
توجه نحو الميتافيزيقا
وبين 1898 و1903، إضافة إلى اشتغاله الدائب على كتابة المقطوعات، درس سكريابين في الكونسرفاتوار الموسكوفي نفسه الذي كان قد تخرج فيه، لكنه سرعان ما سئم التدريس في 1903 وقرر أن يتفرغ للتأليف. وهو لتحقيق تلك الغاية آثر أن يبتعد عن موسكو، فأقام في سويسرا يستلهم طبيعتها أبعاداً ميتافيزيقية هو الذي كان منذ 1900 قد بدأ يهتم بالفلسفة الغيبية الميتافيزيقية، لدرجة أن سيمفونيته الأولى التي كتبها في ذلك العام، وحملت أغنية كورالية في نهايتها، كما أشرنا في بداية هذا الكلام، أتت نشيداً لمجد الفن بوصفه ديناً أو جزءاً من الدين.
تطور الروح الإنساني
وفي سويسرا أكمل سكريابين سيمفونيته الثالثة "السيمفونية الإلهية" التي قدمت في باريس للمرة الأولى في 1905. ومنذ ذلك الحين بدأ الدارسون ينظرون إلى انتظام سكريابين في تأليفه موسيقاه على أنه يعكس في تدرجه "تطور الروح الإنساني من التعددية الالهية إلى وحدة الوجود والغيب". ومنذ تلك اللحظة، على أي حال، لم يكف سكريابين عن رفد موسيقاه بطابع ديني صوفي لا لبس فيه، تشهد على هذا خصوصاً مقطوعتاه الشهيرتان "قصيدة النشوة المطلقة" التي قدمت للمرة الأولى في نيويورك 1908 و"بروموثيوس" 1911. وبين 1906 و1907 جال سكريابين في مدن أميركية عديدة، لكنه عاد من العالم الجديد أكثر إيماناً بالتصوف الديني، وهكذا راح وهو يعيش في بروكسل خلال عام 1908 يرتاد حلقات صوفية كانت منتشرة في العاصمة البلجيكية في ذلك الحين، لكنه في 1909 وجد تشجيعاً من لدن قائد الأوركسترا وصديقه كوسفتزكي للعودة إلى موسكو. إلا أنه في تلك اللحظة لم يكن مستعداً للتخلي عما وصل إليه من تفكير صوفي إيماني، بل كان لديه مشروع أساسي للمزاوجة بين الشعر والموسيقى والألوان والرقص في سبيل خلق فن شمولي يضع نفسه في خدمة الإيمان الصوفي وطقوس الأسرار الغيبية. ووصل به الأمر إلى الإعلان عن أنه هو نفسه "المسيح" العائد صاحب الهدف الإنساني المتوج بالبحث عن المطلق وتحديداً من طريق الموسيقى والفنون المتحلقة من حولها، واضعاً موسيقاه وإنجازاته الفكرية في خدمة ذلك الهدف، فيما صار له أتباع خارج إطار الحلقة المعنية بموسيقاه.
من التصوف والميتافيزيقا إلى الجنون
لكن تلك "العودة" لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما رحل سكريابين عن عالمنا في العام التالي لإعلان نفسه "مسيحاً عائداً". ويومها وبسرعة مدهشة تمكن محبو موسيقاه من أن ينسوا أجواءه الصوفية وأفكاره الغيبية ليتمسكوا فقط به كموسيقي حديث ومعاصر كتب لروسيا أجمل ما أنتجته من موسيقى في ذلك الزمن، ومهد لثورة موسيقية حقيقية ربطت القديم بالحديث، والغيبي بالواقعي، والرمزي بالرومانسي، وفن الموسيقى نفسه بفن الألوان والشعر والرقص.