عندما عاد بارغاس يوسا إلى «مقارعة الاستعمار» بعد غيبة
28-آب-2023
إبراهيم العريس
ما الذي قد يجمع في نص واحد تلك البلدان الثلاثة الواقعة في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، إيرلندا والكونغو والبيرو؟ الجواب المبدئي: لا شيء، ولكن الحقيقة أن ثمة ثلاثة أمور تجمعها قد لا تخطر في البال إلا بشق النفس، وربما عبر معجزة إبداعية، علاقتها بالاستعمار واستيلاء المستعمرين على مقدراتها، شخصية تاريخية كانت منسية تماماً قبل سنوات قليلة، الإيرلندي روجر كيسمنت الذي قد يكون كل ما عرفه عنه العالم أتى من خلال خبر صحافي يتحدث عن إعدام السلطات القضائية البريطانية له بتهمة "المثلية الجنسية"، ومعجزة الإبداع التي أشرنا إليها حيث أصدر الكاتب البيروفي بارغاس يوسا في حمأة فوزه بجائزة "نوبل" رواية عنه ولدت لديه فكرتها بعد أن قرأ في مذكرات مستر إيليس "شيخ الجلادين الإنجليز"، كما يلقب، كلاماً لافتاً عن الرجل كان أكثر ما راقه فيه الجزء المتحدث عن فترة قضاها كيسمنت في البيرو، بلد بارغاس يوسا تحديداً، إذ هنا صرخ الكاتب البيروفي على طريقة أرخميدس الإغريقي "وجدتها". فهو قد وجد الموضوع الذي يبحث عنه هو الذي يفضل دائماً مواضيع تاريخية عالمية ترتبط ببلده، ولم يكن ثمة موضوع مناسب أكثر من موضوع ذلك الإيرلندي الذي وقف إلى جانب نضالات البيروفيين ذات يوم، تماماً كما وقف مدافعاً عن أهل الكونغو ضد الاستعمار البلجيكي ومع نضالات الإيرلنديين ضد الإنجليز.
ضد الاستعمار مجدداً
لكن ذلك لم يكن كل شيء، فالأهم هنا أن بارغاس يوسا عرف كيف يحقق من خلال تلك الرواية التي عنونها "حلم السلتي" عودته إلى مقارعة مفهوم الاستعمار، كممارسة نهبت الشعوب، كانت مقارعتها الذنب الحقيقي الذي دفع الإنجليز إلى إعدام كيسمنت، إذ نجده يقول معلقاً "الحقيقة أنه لو كان الإنجليز يريدون حقاً إعدام المثليين لما انتهت حلقات الإعدام حتى اليوم". فإعدام كيسمنت تم عند بدايات القرن الـ20 (1916)، ولا شك أن الكاتب، وفي هذه الرواية التي يمكن اعتبارها آخر رواياته الكبرى حتى اليوم، عرف كيف يستعيد النفس الملحمي الذي نجده في أعمال كبيرة سابقة له من "الجنة وأبعد قليلاً" عن حياة فلورا تريستان وحفيدها الرسام غوغان وعلاقتهما بالبيرو على رغم أنهما لم يلتقيا أبداً، أو "حروب نهاية العالم" عن حروب برازيلية اندلعت في أواخر القرن الـ19 بفعل تغلغل النصابين باسم الدين في الحياة السياسية وتأليبهم الفقراء البائسين باسم ثورات مزيفة، أو حتى رواية "عيد التيس" المستوحاة من مسيرة الديكتاتور الدومنيكاني تروخيلو، وكما في مثل هذه الروايات، ها هو بارغاس يوسا ينطلق هنا من دور الفرد في صناعة التاريخ، كضحية وجلاد على التوالي، ليحكي لنا التاريخ الكبير بأحرف عريضة.
على وزن ماركيز
ومن هنا لم يكن غريباً على هذا الكاتب الذي يتمتع بموهبة هائلة، لعله الوحيد الذي يضاهي في ذلك غابرييل غارسيا ماركيز صديقه اللدود وخصمه السياسي، أن يبدأ روايته من لحظات التمهيد لإعدام كيسمنت كما وصفها الجلاد في مذكراته، فاتحاً بعد ذلك على التاريخ الكبير الذي لم يكن كيسمنت ضحيته فقط، بل كان صانعه إلى حد كبير أيضاً، وهي اللحظات نفسها التي يعود إليها في الصفحات الأخيرة من الرواية، وتحديداً كما يصفها الجلاد مستر إيليس حرفياً "قرأ حاكم السجن بضع جمل، ولكن روجر لم يولها اهتماماً، ثم سأله بعد ذلك أن كان يريد أن يقول شيئاً، فهز رأسه بالنفي، لكنه تمتم بين أسنانه "إيرلندا"، التفت إلى الكاهنين فعانق كليهما، ومنحه الأب كاري البركة، عندئذ اقترب منه مستر إيليس وطلب منه أن ينحني قليلاً كي يتمكن من عصب عينيه، ذلك أن روجر كان طويلاً بالنسبة إليه، فانحنى، وبينما الجلاد يربط عصابة أدخلته في الظلام، أحس أن يدي مستر إيليس صارتاً أقل ثباتاً الآن، وأقل تحكماً مما كانتا عليه عندما قيدت يداه، أمسك به الجلاد من ذراعه صاعداً معه نحو المنصة كيلا يتعثر، سمع بعض التحركات وصلوات الكاهنين، وأخيراً، همس له مستر إيليس مرة أخرى طالباً منه أن يخفض رأسه، وينحني ففعل ذلك، وأحس عندئذٍ أنه قد وضع الأنشوطة حول عنقه، واستطاع أن يسمع لآخر مرة همس مستر إيليس له: إذا حبست نفسك سيكون الأمر أسرع، سير. وقد أطاعه".
من غياهب النسيان
على هذا النحو ينهي بارغاس يوسا روايته عن "السلتي"، الذي نبشه وحلمه من غياهب النسيان، وهو الذي حتى الإيرلنديون الذين مات من أجلهم، وكان اسم وطنهم آخر كلمة تفوه بها، تأخروا كثيراً قبل أن يعترفوا به بطلاً من أبطال استقلالهم، وذلك بكل بساطة لأن الإنجليز الذين كانوا هم الذين أعدموه، بعدما منحوه لقب النبالة قبل سنوات، عرفوا كيف يشوهون سمعته حين انقلب ضدهم ووقف مناصراً للإيرلنديين، منكرين أن جريمته الحقيقية إنما كانت ذلك الحلم، الذي جعله كاتب الرواية عنواناً لها: حلم تحرر الشعوب وفضح الكولونيالية وظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
والحقيقة أن روجر كيسمنت لم يفعل هذا، بل فعل ما هو أسوأ منه: اكتشف ذات يوم، وبعد أن كان الإنجليز قد كرموه وجعلوه قنصلاً لهم وأغدقوا عليه الأوسمة، اكتشف القضية الإيرلندية وكانت في ذروة احتدامها عند مفتتح القرن الـ20، فراح يناضل إلى جانب الإيرلنديين، بل إنه سيفعل أكثر من هذا، سيتصل بالألمان خلال الحرب العالمية الأولى مقترحاً التعاون معهم ومع قيادتهم العسكرية لمساعدة الشعب الإيرلندي على الحصول على استقلاله.
تحقيق صحافي
هذه الأحداث التاريخية، التي كانت معروفة، وإنما موضوعة في خزائن النسيان، هي ما يرويه بارغاس يوسا في "حلم السلتي"، صحيح أن للكتاب في مجمله طابع التحقيق الصحافي، أو حتى كتاب السيرة، غير أن الروائي لا ينسى هنا أنه إنما يقدم عملاً أدبياً، وهو بالتالي يقسم كتابه إلى ثلاثة أقسام كبيرة يتناول كل قسم واحدة من المناطق الجغرافية الأساسية التي انصب عليها نشاط روجر كيسمنت تباعاً، وهكذا نراه بعد أن يدخلنا في شكل مفاجئ إلى حكاية بطله انطلاقاً من وجوده في زنزانة السجن الإنجليزي التي أمضى فيها أشهر حياته الأخيرة، وهو ينتظر إعادة محاكمته آملاً أولاً في أن يصار إلى العفو عنه، ثم إعدامه بعدما تبين أن العفو مستحيل من لدن سلطات أخافتها سمعته ونشاطاته.
هذه الأحداث التاريخية، التي كانت معروفة، وإنما موضوعة في خزائن النسيان، هي ما يرويه بارغاس يوسا في "حلم السلتي"، صحيح أن للكتاب في مجمله طابع التحقيق الصحافي، أو حتى كتاب السيرة، غير أن الروائي لا ينسى هنا أنه إنما يقدم عملاً أدبياً، وهو بالتالي يقسم كتابه إلى ثلاثة أقسام كبيرة يتناول كل قسم واحدة من المناطق الجغرافية الأساسية التي انصب عليها نشاط روجر كيسمنت تباعاً، وهكذا نراه بعد أن يدخلنا في شكل مفاجئ إلى حكاية بطله انطلاقاً من وجوده في زنزانة السجن الإنجليزي التي أمضى فيها أشهر حياته الأخيرة، وهو ينتظر إعادة محاكمته آملاً أولاً في أن يصار إلى العفو عنه، ثم إعدامه بعدما تبين أن العفو مستحيل من لدن سلطات أخافتها سمعته ونشاطاته.
هذه الأحداث التاريخية، التي كانت معروفة، وإنما موضوعة في خزائن النسيان، هي ما يرويه بارغاس يوسا في "حلم السلتي"، صحيح أن للكتاب في مجمله طابع التحقيق الصحافي، أو حتى كتاب السيرة، غير أن الروائي لا ينسى هنا أنه إنما يقدم عملاً أدبياً، وهو بالتالي يقسم كتابه إلى ثلاثة أقسام كبيرة يتناول كل قسم واحدة من المناطق الجغرافية الأساسية التي انصب عليها نشاط روجر كيسمنت تباعاً، وهكذا نراه بعد أن يدخلنا في شكل مفاجئ إلى حكاية بطله انطلاقاً من وجوده في زنزانة السجن الإنجليزي التي أمضى فيها أشهر حياته الأخيرة، وهو ينتظر إعادة محاكمته آملاً أولاً في أن يصار إلى العفو عنه، ثم إعدامه بعدما تبين أن العفو مستحيل من لدن سلطات أخافتها سمعته ونشاطاته.
بعد هذا يروي لنا الكاتب حياة كيسمنت من ولادته، حتى سنواته الأخيرة، موزعة على تلك المناطق الجغرافية: الكونغو فالأمازون، ثم إيرلندا، أخيراً، ثم داخل هذا التوزع الجغرافي الذي، على أية حال، تتبع خريطة تنقل كيسمنت نفسه، يوزع الكاتب كل قسم على فصول مرقمة، إذ في الفصول ذات الأرقام الأحادية، تطالعنا حكاية أشهره الأخيرة، من السجن إلى المشنقة، أما في الفصول ذات الأرقام المزدوجة، فلدينا السيرة التي عاشها الرجل، منذ عام 1864 حين ولد في إحدى ضواحي دبلن، حيث "ترعرع وتعلم كأنغليكاني من أتباع الكنيسة الإيرلندية، لكنه حدس منذ ما قبل بلوغه سن الرشد أن أسرته ليست كلها شديدة الانسجام في مسألة الدين مثلما هي في الشؤون الأخرى". أما في الفصول ذات الأرقام المزدوجة، فلدينا السيرة التي عاشها الرجل، منذ عام 1864 حين ولد في إحدى ضواحي دبلن، حيث "ترعرع وتعلم كأنغليكاني من أتباع الكنيسة الإيرلندية، لكنه حدس منذ ما قبل بلوغه سن الرشد أن أسرته ليست كلها شديدة الانسجام في مسألة الدين مثلما هي في الشؤون الأخرى".
لقاء مع صاحب "قلب الظلمات"
لن نطيل هنا التوقف عند تفاصيل حياة كيسمنت، لكننا نعود لنلتقطه في الكونغو، حيث يبدو أن لقاءه مع الكاتب جوزيف كونراد، صاحب "في قلب الظلمات" (1899)، كان حاسماً في إدراكه ظلم الكولونيالية، وهناك بدأ صراعه مع السلطات البلجيكية المحتلة الكونغو والناهبة خيراته، وهو بعدما كتب كصحافي كثيراً عن ممارسات البلجيكيين في ذلك البلد الأفريقي، سافر إلى البيرو، حيث طالعته الظواهر نفسها: نهب خيرات الشعوب وإبادتها. وكان لا يتوانى عن تزويد الصحف الإنجليزية بالمقالات الفاضحة الغاضبة، مما جعل له تلك السمعة الكبيرة التي دفعت السلطات البريطانية إلى تعيينه قنصلاً، غير أن هذا لم يغره على الإطلاق، ولا سيما حين أدرك أن ما يشكو منه لدى الآخرين، ويشجعه الإنجليز على مزيد من الفضح له، لا تختلف عنه تصرفات الإنجليز في إيرلندا، مسقط رأسه، وهكذا في القسم الثالث من الكتاب "إيرلندا"، نجده في هذا الجزء من العالم يناضل في سبيل استقلاله، فاضحاً هذه المرة ممارسات سلطات لندن فيه، وتحريضها البروتستانت على الكاثوليك هناك، ويقيناً أن ذلك ما جعله يدفع الثمن ليدخل عالم النسيان قبل أن يعيد الإيرلنديون اكتشافه ويعيدوا الاعتبار له، ثم يأتي الأدب الخلاق ليتوج ذلك كله.