عودة مرة أخرى للحرب الاختيارية الأمريكية على العراق
5-نيسان-2023
ريتشارد هاس
ترجمة: د. حسين احمد السرحان
الحروب لا يتم خوضها في ساحة المعركة فحسب، بل تُخاض أيضًا في المناقشات السياسية المحلية وفي تدوين التاريخ للأحداث بعد حصولها. وفي حالة الغزو الأمريكي للعراق قبل 20 عامًا، ما زلنا في مراحلها النهائية، ونسعى الى إجماع بعيد المنال حول إرث الحرب.
إحدى الميزات التي يتمتع بها المؤرخون أكثر من الصحفيين تتعلق بعامل الزمن، ليس بمعنى أنهم متحررين من التوقيتات، ولكن لديهم منظور أعمق تمنحه سنوات -أو عقود - بين الأحداث وبين الكتابة عنها. ان عشرين عامًا ليس وقتًا طويلاً من الناحية التاريخية بالطبع، ولكن عندما يتعلق الأمر بفهم الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق في اذار 2003، فهذا كل ما موجود.
من غير المستغرب أنه حتى بعد عقدين من بدء الحرب، لا يوجد إجماع على إرثها. وهذا متوقع، لأن كل الحروب تمر بثلاث مراحل، الاولى الصراع السياسي والداخلي على قرار خوض الحرب. ثم تأتي الحرب الفعلية وكل ما يحدث في ساحة المعركة، وأخيرًا، ما يترتب على ذلك من نقاش طويل حول أهمية الحرب، والموازنة بين التكاليف والفوائد، وتحديد الدروس المستفادة، وإصدار توصيات سياسية استشرافية.
قرار التدخل
لا تزال الأحداث والعوامل التي أدت إلى قرار الولايات المتحدة بشن الحرب على العراق غامضة ومثيرة للجدل. فالحروب تنقسم الى فئتين: حروب الضرورة (اجبارية) و(حروب اختيارية). تحدث حروب الضرورة عندما تكون المصالح الحيوية على المحك ولا توجد خيارات أخرى قابلة للتطبيق متاحة للدفاع عنها. على النقيض من ذلك، فأن الحروب الاختيارية هي تدخلات تبدأ عندما تكون المصالح أقل من حيوية، عندما تكون هناك خيارات أخرى غير القوة العسكرية التي يمكن استخدامها لحماية هذه المصالح أو تعزيزها، أو كليهما. كان الغزو الروسي لأوكرانيا حرباً من اختياراتها. إن الدفاع المسلح لأوكرانيا عن أراضيها أمر ضروري (حرب اجبارية).
كانت حرب العراق حربًا تقليدية مفضلة: لم يكن على الولايات المتحدة خوضها. ومع ذلك، لا يتفق الجميع مع هذا التقييم. اذ يزعم البعض أن المصالح الحيوية الاميركية كانت بالفعل على المحك، لأنه يعتقد أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل قد يستخدمها أو يتقاسمها مع الإرهابيين. ولم يكن لدى مؤيدي الحرب ثقة كبيرة في الخيارات الاخرى للولايات المتحدة تكون موثوقة للقضاء على أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة.
علاوة على ذلك، في أعقاب الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001، عكس القرار عدم الرغبة الشديدة في تحمل أي خطر على الولايات المتحدة على الإطلاق. فكرة أن القاعدة أو جماعة إرهابية أخرى يمكن أن تضرب الولايات المتحدة بجهاز نووي أو كيماوي أو بيولوجي كانت ببساطة غير مقبولة. كان نائب الرئيس ديك تشيني آنذاك هو المؤيد الابرز لهذا الرأي.
ويبدو أيضًا أن آخرين، بمن فيهم الرئيس الاسبق جورج دبليو بوش والعديد من كبار مستشاريه، مدفوعين بحسابات إضافية، مثل السعي وراء ما اعتبروه فرصة جديدة وعظيمة للسياسة الخارجية. بعد 11 ايلول، كانت هناك رغبة واسعة النطاق لإرسال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة ليس في موقع دفاعي فقط، وأنها تكون قوة فاعلة في العالم، وتأخذ زمام المبادرة بتأثير كبير.
بغض النظر عن التقدم الذي تم إحرازه في أفغانستان بعد غزو الولايات المتحدة وإزاحة حكومة طالبان التي وفرت ملاذاً آمناً لإرهابيي القاعدة الذين خططوا ونفذوا هجمات 11 ايلول، والذي عُد غير كافٍ، الا ان الدافع وراء الكثيرين في إدارة بوش هو الرغبة في جلب الديمقراطية الى الشرق الأوسط بأكمله، وكان يُنظر الى العراق على أنه البلد المثالي لبدء الانتقال. أن الدمقرطة هناك من شأنها أن تكون مثالاً لن يتمكن الآخرون في جميع أنحاء المنطقة من مقاومة اتباعه. كما ان بوش نفسه أراد أن يفعل شيئًا كبيرًا وجريئًا.
يجب أن أوضح أنني كنت جزءًا من الإدارة في ذلك الوقت، كرئيس لموظفي تخطيط السياسة في وزارة الخارجية. مثل جميع زملائي تقريبًا، اعتقدت أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، أي أسلحة كيميائية وبيولوجية. ومع ذلك، لم أفضّل الذهاب الى الحرب. واعتقدت أن هناك خيارات أخرى مقبولة، منها الإجراءات التي يمكن أن تبطئ أو توقف تدفق النفط العراقي الى الأردن وتركيا، وكذلك إمكانية قطع خط أنابيب النفط العراقي الى سوريا. والقيام بذلك سيشكل ضغطًا كبيرًا على صدام للسماح للمفتشين بدخول مواقع الأسلحة المشتبه بها، وإذا تم منع عمليات التفتيش هذه، كان بإمكان الولايات المتحدة شن هجمات محدودة ضد تلك المنشآت.
لم أكن قلقا بشكل خاص من دخول صدام في تجارة الإرهاب. لقد حكم العراق العلماني بقبضة من حديد واعتبر الإرهاب الديني (بدعم إيراني أو بدونه) أكبر تهديد لنظامه. كما أنه لم يكن من النوع الذي يسلم أسلحة الدمار الشامل إلى الإرهابيين، لأنه أراد أن يسيطر بشدة على أي شيء يمكن أن يكون له صلة بالعراق. علاوة على ذلك، كنت على شك كبير في أن العراق -أو المنطقة الأوسع- كانت ناضجة للديمقراطية، نظرًا لأن متطلباتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كانت مفقودة الى حد كبير. لقد توقعت أيضًا أن إرساء الديمقراطية سيتطلب احتلالًا عسكريًا كبيرًا وطويل الأمد وسيكون مكلفًا على الأرض ومثيرًا للجدل في الداخل الاميركي.
الاحتلال الذي فشل
سارت الحرب بشكل أفضل، وبالتأكيد أسرع، مما كان متوقعًا -على الأقل في مرحلتها الأولى. فبعد الغزو في منتصف اذار 2003، استغرق الأمر حوالي ستة أسابيع لهزيمة القوات المسلحة العراقية. وبحلول ايار، كان يمكن لبوش أن يدعي أن المهمة قد أُنجزت، مما يعني أن حكومة صدام قد تم القضاء عليها واختفت أي معارضة منظمة ومسلحة.
لكن في حين أن القوة الأمريكية التي تم إرسالها للإطاحة بالحكومة كانت أكثر من قادرة على كسب الحرب، إلا أنها لم تستطع تأمين السلام. الافتراضات الجوهرية التي واكبت التخطيط للغزو -أي أن العراقيين سيرحبون بالجنود الاميركان كمحررين- ربما كانت صحيحة لبضعة أسابيع، لكن ليس أكثر من ذلك.
أرادت إدارة بوش جني ثمار بناء الدولة دون بذل جهود شاقة. والأسوأ من ذلك أن المسؤولين حلوا قوات الأمن التابعة للنظام العراقي السابق واستبعدوا الأدوار السياسية والإدارية للعديد من العراقيين الذين كانوا أعضاء في حزب البعث الحاكم، على الرغم من أن عضوية الحزب كانت في كثير من الأحيان ضرورية للتوظيف في ظل نظام صدام.
كما هو متوقع، تدهور الوضع على الأرض بسرعة، وأصبح النهب والعنف أمرًا شائعًا، كذلك حركات التمرد والحرب الأهلية بين الميليشيات السنية والشيعية دمرت النظام المؤقت الذي تم إنشاؤه. بعد ذلك، لم تبدأ الظروف في التحسن حتى عام 2007، عندما نشرت الولايات المتحدة 30 ألف جندي إضافي في العراق في "الزيادة" الشهيرة. لكن بعد أربع سنوات، قرر خليفة بوش، باراك أوباما، سحب القوات الأمريكية في مواجهة تدهور العلاقات السياسية مع الحكومة العراقية.
الرسوم المرتفعة
كانت نتائج الحرب سلبية بشكل ساحق. نعم، تم الإطاحة بطاغية مروع استخدم أسلحة كيماوية ضد شعبه وشن حروبا ضد اثنين من جيرانه. وعلى الرغم من كل عيوب المرحلة الحالية، فأن العراق اليوم أفضل حالًا مما كان عليه، كما تتمتع الأقلية الكردية المضطهدة منذ فترة طويلة بدرجة من الحكم الذاتي التي حُرمت منها سابقًا. لكن جانب التكلفة للولايات المتحدة كان أكثر وضوحا. فقد أودت الحرب بحياة نحو 200 ألف مدني عراقي و4600 جندي أمريكي. وكانت التكاليف الاقتصادية للولايات المتحدة في حدود 2 تريليون دولار، وأدت الحرب الى اضطراب ميزان القوى في المنطقة لصالح إيران المجاورة، التي زادت من نفوذها على سوريا ولبنان واليمن، فضلا عن العراق.
كما أدت الحرب إلى عزل الولايات المتحدة بسبب قرارها بالقتال الى جانب عدد قليل من الشركاء وبدون دعم صريح من الأمم المتحدة. وأصيب ملايين الأمريكيين بخيبة أمل من حكومتهم والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، مما ساعد على تمهيد الطريق للشعبوية المناهضة للحكومة والانعزالية في السياسة الخارجية التي هيمنت على السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة. وبدونها، كان من الممكن أن تكون الولايات المتحدة في وضع أفضل بكثير لإعادة توجيه سياستها الخارجية للتعامل مع روسيا الأكثر عدوانية والصين الأكثر حزماً.
دروس الحرب متعددة الجوانب. يجب شن حروب الاختيار فقط بحذر شديد ومراعاة التكاليف والفوائد المحتملة، بالإضافة إلى البدائل، وهذا لم يحدث في حالة العراق. على العكس من ذلك، في الغالب كان صنع قرار الحرب على أعلى المستويات غير رسمي ويفتقر الى الدقة. كما ان الافتقار الى المعرفة المحلية كان واضحا جدا. وأصبح من الواضح الإشارة الى أن غزو بلد من دون فهمهُ أمر خطير أو حتى متهور، وهذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة مع العراق. فقرار خوض الحرب استند الى أسوأ تقدير ممكن، وهو أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل وسيستخدمها أو يوفرها لمن سيستخدمونها. وإذا كانت السياسة الخارجية تعمل دائمًا على هذا الأساس، فستكون التدخلات مطلوبة في كل مكان. لذلك ما نحتاجه هو دراسة متوازنة للسيناريوهات الأكثر احتمالا، وليس الاقل احتمالا.
ومن المفارقات، أن تحليل ما سيتبع النصر في ساحة المعركة في العراق أخطأ في الاتجاه المعاكس: وضع المسؤولون الأمريكيون كل أوراقهم على أفضل سيناريو، وهو ان العراقيين سيرحبون بمن حررهم من صدام، وسرعان ما سينحّون خلافاتهم الطائفية جانباً ويتبنون الديمقراطية، ومعروف ما حدث بدلا من ذلك. اذ أصبح سقوط صدام لحظة تصفية الحسابات بعنف والتنافس على المناصب. لذا فان تعزيز الديمقراطية مهمة شاقة. إن الإطاحة بقائد ونظام مسيطر شيء، ووضع بديل أفضل ودائم في مكانه، شيء آخر.