فاتحة مُرشيد تتوغل في منعرجات التيه وحميد الخربوشي ينقش في متاهات البياض
14-حزيران-2023
عدنان حسين أحمد
صدرت عن المركز الثقافي للكتاب، بيروت /الدار البيضا 2023م، المجموعة الشعرية التاسعة للشاعرة المغربية فاتحة مُرشيد التي أدرجتْها تحت عنوان "لا حزن لي الآن" وكأنّ نفي الحزن الآن هو إثبات لوجوده في الماضي، واحتمال وقوعه في المستقبل لا قدّر الله. ومَن يتأمل هذه التسمية أو يُدققها بشيء من التأمل العميق سيجد أنها تسمية وجدانية تقوم على إدراك مشاعر الآخرين والإحساس الصادق بها عن طريق القلب والعاطفة وإبعاد العقل الحِسابي الصارم عن هذا الحيّز الذي يُدرَك بالمشاعر المُرهفة أو القوى الباطنة إن صحّ التعبير. وربما تحتاج هذه القصيدة التأملية الطويلة التي انضوت تحت هذا العنوان الإشكالي المقصود إلى الغوص في "اللاوعي" الذي تمتلكه الشاعرة وتراهن على معطياته الذاتية التي تختلف بالضرورة من شخص إلى آخر أو من شاعر إلى آخر وتوظِّفها بعناية فائقة تعتمد على الحدْس والقراءة الداخلية التي لا ترجم بالغيب لأنها تلج، مصطحبةً معها القرّاء، إلى غابة الأسئلة الفلسفية والروحية والجمالية في آنٍ معًا.
ما يميّز هذه المجموعة الشعرية عن سابقاتها الثماني في رصيد فاتحة مُرشيد الشعري أنها جاءت مُتعالقة، أو مُرصّعة، إن شئتم، بعشرين لوحة كاليغرافية تُركِّز كل واحدة منها على صورة شعرية محددة وكأنّ "لا شعور" الفنان الخطّاط حميد الخربوشي "يحْدس" هو الآخر ويقترح علينا آلية تلقّي جديدة يراها من وجهة نظر جمالية قد تتجاوز المعنى إلى المبنى، وتتخطى الباطن إلى الظاهر، ولا تطلب من القارئ أو الرائي أكثر من متعة المشاركة الوجدانية بعيدًا عن سلطة العقل، وصرامته اليقينية التي لا تحتفي بالأحلام والتخيلات والأوهام التي يعتمد عليها المنطق الشعري ويراهن في الذهاب بالمجازفة إلى أقصاها.
الاقتباس الضمني
لم تقتبس فاتحة مُرشيد من القرآن الكريم جملةً واحدة أو آية كاملة وإنما استلفت منه كلمتين أو صورتين في أفضل الأحوال وهما "أيتها النفسُ" التي استهلّت بها القصيدة و " كلُّ نفسٍ ذائقة . . ." التي ترد قبل نهاية المجموعة الشعرية بقليل. وهذا الاقتباس الضمني يركز بشكل أساسي على كلمة "النفس" التي تلعب دورًا مهمًا في هذه القصيدة الطويلة إذا ما أضفنا إليها كلمتيّ الجسد والروح ليتشكّل في النهاية هذا المثلث المتساوي الأضلاع من "الجسد والنفس والروح" وسوف تكون النفس هنا قلقة، مضطربة، لا تعرف الاستقرار فلاغرابة أن تكون "نفسُ الشاعرة" غير مُطمئنة لكنها واعية بما يحدث فالقلق لا ينفي الوعي أو التصديق الذي يؤكده السياق القرآني الكريم. ولو تأملنا المقطع الأول من القصيدة الذي توازيه اللوحة الكاليغرافيكية لوجدنا خمسة أسئلة فلسفية متجاورة تكوّرت على بعضها بعضًا لتستدرج القارئ لخوض المغامرة التي تريدها الشاعرة في هذا المستهَل الإشكالي الذي تقول فيه:" أيتها النفسُ اللامُطمئِنة / يا وثبتي خارج ذاتي/ أصحوٌ أنتَ أم صدْعٌ / أم كشفٌ أم سؤال / أم تراك ذكرى / من حياة أخرى". وقبل أن ننتقل إلى اللوحة الثانية لابد من الإشارة إلى رأي الناقد والخطاط المغربي محمد البندوري الذي قال بأنّ " الخط المغربي المجوهر، وهو خط دقيق وسلس . . . ومقاييس حروفه أقل حجما من المبسوط وبعضها مطموس . . . وهي سمة تميز هذا الخط وتزيده رونقا وعذوبة". وما قام به الفنان والخطاط حميد الخربوشي هو تعزيز للدقّة والسلاسة والانسياب في مجمل اللوحات الفنية التي أنجزها وجعلها ضمن متن هذه المجموعة الشعرية. ولو تمعنّا في اللوحة الثانية لوجدنا أنّ التركيز منصبٌ على البيت الشعري الذي تقول فيه الشاعرة فاتحة مُرشيد "يا من تعشق في الأرواح شروخها" وهي تخاطب الأنثى الأخرى التي "ترتدي الأخطاء تاجًا" وتلفت انتباهها بأنّ ثُقل الأخطاء لن يحمله أحد سواها، وأنها يجب أن تُسقِط أوراق التوت "فلا من بهاء سوى العراء". يمتلك الخط المجوهر من الرشاقة واللين والطواعية ما يجعله حاضنة لقطرة الحُب التي سقطت وكانت لها بمؤازرة الخوف سريرًا. وسوف تتكرر هذه الحاضنة في مقطع لاحق لتصوّر لنا "مُحترفة اليُتم" المحرومة من الحضن الأول. ربما تكون لوحة "التشظّي قدر المرآة" التي خطّها الفنان بطريقة مُتضّامة مترّاصة وكأنّ الجملة قطعة واحدة متشابكة بكلماتها الثلاث ولا يمكن أن توحي بفكرة التشظّي ولعل الخطاط أراد أن يقف في الجهة المقابلة للشاعرة ويوحي بالتعشيق والتماهي والاندماج. ولعل هذا الأمر ينسحب على لوحة "فترات العمى" التي تحيل بصريًا إلى اليقظة والصحو المُطلق. وهذا الأمر سيتكرر في لوحة "وأعبري على رؤوس الحروف" أيضًا. تتعالق الشاعرة فاتحة مُرشيد مع واحدة من مناجيات هاملت الشهيرة التي يقول في مطلعها "أن تكون أو لا تكون ذلك هو السؤال" لكنها كدأبها لا تقتبسه كاملاً وإنما توحي إليه فتقول:"ما سُمّي "الكائن" إلاّ لكي يكون، فكوني أناي أو لا تكوني" وقد رجّح الخطاط أنا الشاعرة وخطّها بالبنط العريض بينما ترك طرف المعادلة الآخر يتضاءل إلى درجة ما ولكنه ظل مرئيًا ومقروءًا في ثنائية الوجود والعدم الفلسفية التي يعرفها الجميع.
تتعامل فاتحة مُرشيد مع العواطف والمشاعر والأحاسيس وكأنها "أعضاء بشرية" فتؤنسنها أو تُضفي عليها ملامح إنسانية فلا غرابة أن تكبر أو تتقادم أو تشيخ مثل أي عضو حيّ يتجه صوب نهايته المُرتقبة حينما تخذل العواطف بطلتها التي تتقنّع بها تارة، وتزيل هذا القناع تارة أخرى لتقول ما تريد من دون خوف أو تردد أول وجل.
تعود الشاعرة إلى الماضي كما أسلفنا ويلتقط الفنان هذه العودة المقصودة ويصوّرها كشكل كروي مستدير تاركًا فتحتهُ العليا كمنفذ صغير للتسلل بعد أن يحشر في جوفها الصورة الشعرية التي تقول:"ويئن الغد من تفشّي الحنين". وهذه النفس اللامطمئنة تبدّل جلدها كل عام لأنها مُحبة للحياة وشغوفة بها حد الولع فلاغرابة أن تقول للنفس القلقة:"شغفك بالحياة كالنزيف لا ينضب". وقد جسّدها الخاط الفنان بطريقة باهرة جدًا حينما حصر هذا الشغف بشكل بيضوي لا تعرف من أين يبدأ؟ وإلى أين ينتهي هذا النزيف الذي لا ينضب؟
الجسد مرتع الأوجاع
تتنقّل الشاعرة فاتحة مُرشيد بين الروح والجسد وتقرن هذا الأخير بالألم وهو كذلك لأنه "مرتعُ الأوجاع"، بل أنها تُجسّد الألم حينما تقول:"ولا شيء غير الألم يرسم أبعاد الجسد". كما تستعين مرة ثانية لتحاصر هذا الجسد الأنثوي في شكل بيضوي آخر يقترحه الفنان حميد الخربوشي ليقول هو الآخر ما يريده عبر وسيلته البصرية التي لا تقل بلاغة عن بلاغة الشاعرة والمبدعة فاتحة مُرشيد التي تراهن على مَنْجمها اللغوي، وينبوعها المتدفق بالصور الشعرية الجذابة التي تغوص في أعماق الكائن البشري ولا تفضّل اللهو في مياهه الضحلة والمتاحة للجميع. يبتعد الخطاط أحيانًا عن اللغة المجازية فيرسم هذا المقطع:"بين تدنٍ وتسامٍ / يتعمق الشرخ تحت الأقنعة / ويطيب / السقوط" حيث يخطّ كلمة "يطيب" بشكلٍ أفقي بينما يرسم كلمة "السقوط أسفلها بشكل عمودي من دون الإتكاء على الصورة المجازية لهذا السقوط المروّع. ربما تتساوى الشاعرة والخطاط الفنان في رسم تفاصيل هذا المقطع الشعري الذي يجسّد فضول هذه النفس الملتاعة للحياة ولا يكتفي بها وإنما يدفعها للمضي إلى ما وراءها واكتشاف المخبّأ منها، والتعرّف على الأشياء التي ظلّت متوارية عنها، فـ "لا إشباعَ يُرجى / قبل العبور / إلى الما وراء" الذي جسّده الخطاط هذه المرة بنصف دائرة غارقة في الدهشة والفراغ والمجهول. وبما أنّ فاتحة مُرشيد قاصة وروائية أيضًا فلابد أن يتسلل السرد إلى نصوصها الشعرية ويقول كلمته النافذة عبر صورة مرآوية مدهشة تقول فيها:
"عبثًا تحاول المرآة / توحيد وجهي بوجهكِ / كأننا وجهان / لعُملة واحدة / أيها الظلُ العاكس لظلمتي / أثرتَ ما يكفي من الضيق / أما حان لأحدنا أن ينسحب؟ / سيحدثُ في ذروة وعي بكِ / انفصالي عنك / لا / لن أكفَّ / عن الإيمان بكِ / كي يستمر الذهول". ليس هذا فقط، فالقاصة والروائية تريد أن تحبك حكايتها وتعود بنا إلى "نقطة البداية" التي تصوّرها بطريقة مذهلة حينما تقول:"هكذا هي الحياة / عودة دائرية / إلى ما هجرناه / شوقٌ لحبل سُرّة / خلناه قيدًا / فافتقدناه" ومنْ يتأمل في اللوحة الفنية المرفقة مع هذا المقطع الشعري الذي يخصّ الجميع يرى أن التطابق بين المقطع الشعري والمقطع الكاليغرافي كبير جدًا ويصل إلى حدّ التماهي بين الذاكرتين الشعرية والكاليغرافية.
مَن يقرأ مجموعات فاتحة مُرشيد الشعرية الثماني التي تبدأ بـ "إيماءات" 2003م و "ورق عاشق"، و "أي سواد تُخفي يا قوس قزح؟" وتمرّ بـ "تعال نمطر"، و "آخر الطريق أوله"، و "ما لم يُقل بيننا"، و "تنتهي بـ "اِنزع عني الخُطى"، و "شرارة من الهناك"، ويمكن أن نضيف إلى قائمتها "حميميّة الغيم" 2020م وهي مختارات شعرية من مجوعاتها الثماني السابقة وقد صدرت باللغتين العربية والإنگليزية بترجمة نور الدين الزويتني عن المركز الثقافي للكتاب، إضافة إلى مجموعة "لا حزن لي الآن" 2023م سيجد من دون عناء أنّ هناك شعرية مُختلفة لما عهدناه في قصائد الشعراء العرب رجالاً ونساءً، ولعل فاتحة مُرشيد هي الشاعرة الأكثر تميّزًا في المضمار اللغوي بين قريناتها المغربيات لأنها تمتلك وعيًا لغويًا حادًا ربما استمدته من وعيها ومعرفتها بالأمازيغية والفرنسية؛ فهذا التلاقح يخلق لغة هجينة لا تشبه ما اعتدنا عليه. وهذا المَلمح على وجه التحديد يحتاج إلى دراسة خاصة وبحث لغوي منفرد يدرس هذه الظاهرة ويتعمّق بها ليصل الدارس إلى نتيجة منطقية تروي غليل القارئ العربي الذي يتحرّق شوقًا لمعرفة هذا النمط من الشعراء المتميزين، والشواعر اللواتي يغردنَ خارج السرب، وفاتحة مُرشيد بينهم إن لم تكن القيدومة التي تقود سرب الشواعر العربيات أو المغربيات في أقل تقدير.