فارس الفرسان في نظرات معاصرة بين بارغاس يوسا وميشال فوكو
6-أيار-2023
إبراهيم العريس
هي رواية الروايات دون منازع، رواية البطل "المغوار" التي افتتحت عصر الإنسان في تلك الحداثة الروائية التي انطلقت قبل أربعة قرون من الآن ولا تزال شديدة الحداثة حتى اليوم، "دون كيشوت ديلا مانشا" لثربانتس هي وبلا ريب أول رواية معاصرة لنا على رغم أنها نشرت على جزأين في العامين 1605 و1615، لتفرض نفسها منذ ذلك الحين بوصفها العمل الروائي "الأول" في تاريخ الأدب الإنساني على رغم أن روايات عديدة كانت قد ظهرت في القرون الستة السابقة عليها التي واكبت بدايات زمن النهضة.
لقد أتت "دون كيشوت" تتويجا لما كان قد كتب حتى ذلك الحين، ومنطلقاً راسخاً لما سوف يكتب بعد ذلك، ومنذ ظهورها لم يتوقف اهتمام الكتاب والرسامين والموسيقيين والمسرحيين ومن بعد كل أولئك بزمن، السينمائيين في القرن العشرين وما تلاه بها. لقد ولد من رحم رواية ثربانتس هذه أعداد لا تحصى من مبدَعات وفي شتى مجالات الفنون، وحتى قبل أن يحل عصر السينما التي سرعان ما تمسكت بها في أفلام صامتة وناطقة، وفي أفلام غنائية وراقصة وفي أفلام درامية وهزلية وصولاً إلى أورسون ويلز، العملاق الشكسبيري السينمائي الكبير الذي وجد نفسه في نهاية الأمر عاجزاً عن استكمال اقتباس له عن الرواية فأوقف المشروع في منتصفه حتى أعيد اكتشافه بعد وفاته بسنوات، وويلز لم يكن الكبير الوحيد الذي تصدى لفارس طواحين الهواء، كثر من غير ويلز، ولكن من مقامه حملوا مشاريع اقتباسات مشابهة عن تلك الرواية... وعاشوا أعمارهم وأنهوها وهم يحلمون بأن ينضم اقتباسهم إلى لائحة ما أنتجوه فرحلوا متحسرين.
ولم يكن الباحثون والفلاسفة وكبار النقاد أقل من المبدعين في اهتمامهم بدون كيشوت وحسبنا أن نذكر هنا أن لائحة كاملة بعناوين الكتب والدراسات الكيشوتية قد تحتاج مئات الصفحات لذكر العناوين وحدها، بل يمكننا أن نقول إن لكل جيل كان ثمة عشرات وربما مئات الدارسين للرواية المؤسسة هذه، وحسبنا هنا أن نذكر على سبيل المثال أن الجيل السابق مباشرة على زمننا هذا شهد اثنين (بين مئات آخرين ساروا في ركابهم) من كتاب الطبقة الأولى يتناولون دون كيشوت وحكايته في كتابات أساسية لهم، البيروفي صاحب حائزة نوبل لعام 2010، ماريو بارغاس يوسا، والمفكر الفرنسي ميشال فوكو، وطبعاً لم يكن هذان، الوحيدين اللذين استعادا فارس المانشا في نصوصهما العصرية، فالحقيقة أنه ندر أن كان ثمة في القرن العشرين كاتب لم يكرس لهذا "البطل" صفحات رائعة، لكن يوسا وفوكو تتمتع كتابتهما عنه بنكهة خاصة، فالأول كتب تقديماً للطبعة الخاصة التي أصدرتها المكتبة الملكية الإسبانية لرواية "دون كيشوت" والتي صدرت عام 2004 في مدريد لمناسبة الاحتفال بالمئوية الرابعة لظهور الرواية، أما الثاني فأتى ما كتبه عن دون كيشوت، الشخصية والرواية، في سياق واحد من أعقد فصول كتابه الأشهر "الكلمات والأشياء" أي الكتاب الذي أطلق شهرته وحدد مكانته الكبيرة في الثقافة الفرنسية منذ عام 1966.
ولنبدأ هنا بشيء مما كتبه فوكو عن ذلك الفارس مركزاً على الجزء الثاني من الرواية، حيث يقول في معرض مقاربته حكاية دون كيشوت من اهتماماته هو الشخصية: "... في الجزء الثاني من االرواية، يلتقي دون كيشوت أشخاصاً كان قد سبق لهم أن قرأوا الجزء الأول من حكايته فإذا بهم يتعرفون فيه على بطل الرواية. وبهذا يضحي نص ثربانتس هنا مليئاً بما يحكي عنه هو نفسه ويغوص في كثافته الخاصة ليصبح في حد ذاته موضوعاً لسرد نصه الخاص. بالتالي يتحول الجزء الأول من الرواية ليلعب في الجزء الثاني الدور الذي كانت قد اعتادت لعبه كل روايات الفروسية المعروفة. وهكذا في قلبة مذهلة يحدث بين الجزأين الأول والثاني من الرواية وفي نقطة ما بينهما وانطلاقاً من قوتهما الذاتية، أن يتلبس دون كيشوت نفسه بحقيقته الواقعية. وهي واقع لا يدين لشيء سوى اللغة وهي لغة تبقى بأكملها أسيرة الكلمات. والحال أن حقيقة دون كيشوت لا تكمن في علاقة الكلمات بالعالم، بل في تلك العلاقة الرقيقة والدائبة التي تحيكها الإشارات اللفظية من ذاتها في ذاتها، وبهذا تضحي الحكاية المخيبة للأفعال هي قوة اللغة التمثيلية. أي إن الكلمات تنغلق على طبيعتها كإشارات، وهذا ما يجعل "دون كيشوت" المبدَع الفني الحديث الأول في تاريخ الأدب لأننا نرى فيه للمرة الأولى المنطق الأقسى للتماهيات والاختلافات يتلاعب حتى النهاية بالإشارات والتشابهات: حيث إن اللغة تقطع هنا قرابتها القديمة مع الأشياء لتدخل في تلك السيادة المتفردة التي لن تعود إلى الظهور منها في حالها الفج، إلا وقد أصبحت أدباً".
ولئن كان هذا النص قد حمل قسطه من الصعوبة وعلى الأقل حتى ظهور كتب أخرى لفوكو في سنوات تالية لينت من عريكة لغته ملقية أضواء كاشفة على نصوصه الأولى التي بدت "مغلقة" تماماً قبل اعتياد قرائه على لغته هذه، فإن نص بارغاس يوسا أتى أكثر وضوحاً، وإن كان لم يبتعد في المفاهيم التي توصل إليها كثيراً من جوهر ما كتبه فوكو في نصه، ومع هذا كان من الواضح أن رغبة يوسا الأولى إنما كمنت في تسييس نص ثربانتس، مقابل ما فعله فوكو من أدلجة مفهومية بل حتى لغوية، تسفر عن "حداثة دون كيشوت المطلقة". فبالنسبة إلى الكاتب البيروفي المعاصر، يتمحور هم فارس طواحين الهواء الأساسي، من حول الحرية بل من حول تمرد مطلق ضد السلطات القمعية في إسبانيا عصره، ولكن في كل الدول التي تحكمها سلطات قمعية في كل العصور.
ويقول لنا يوسا في تلك المقدمة التي باتت واسعة الشهرة منذ نشرت عام 2004 إن في خلفية "صورة الهيدالغو – أي الفارس النبيل – بطل الرواية الرافض لأن يكون خاضعاً لأية سلطة والمتمرد على كل حاكم"، "إنما تظهر وبكل وضوح صورة ثربانتس نفسه، تسربانتس الذي نعرف كيف أنه أودع السجن مرات ومرات في حياته وغالباً بجريمة غير واضحة لن تكون في نهاية المطاف سوى تمرده على السلطة". وهذا بالتحديد ما يدفع يوسا إلى وصف رواية "دون كيشوت" بأنها أولاً وأخيراً نشيد للحرية، ولا يفوت يوسا هنا أن يتوقف عند ما يعتبره "فقرة شديدة الشهرة ترد في واحد من حوارات دون كيشوت مع سانشو بانشا إذ يقول له ذات لحظة: "إن الحرية يا سانشو هي أثمن هبة وهبتها السماء للبشر. هبة لا يضاهيها أي شيء لا الكنوز التي تضمها الأرض في أحضانها، ولا تلك التي يحتويها البحر في أعمق أعماقه: في سبيل الحرية.