بغداد ـ العالم
قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، إن إسرائيل دخلت "مرحلة جديدة في الحرب" على حماس في غزة. وأرسل الجيش الإسرائيلي دبابات وقوات برية أخرى إلى غزة وأبقاها هناك، في حين واصل هجماته المدفعية والجوية المكثفة، لكنه لم يطلق حتى الآن غزواً برياً شاملاً. وتطرق الباحث البارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية دانيال بايمان إلى هذه المرحلة في مجلة "فورين بوليسي" مشيراً إلى أبرز ما يمكن توقعه من مساراتها. ليس من الواضح ما إذا كان سيكون هناك يوم ذو تسمية رسمية لمثل هكذا عملية، لكن إسرائيل تعمل بشكل مطرد على زيادة عملياتها البرية داخل غزة، كما تشن غارات على القطاع وتقطع الاتصالات السلكية واللاسلكية هناك.
مع تحولها من النهج الجوي حصراً إلى النهج الذي يشمل قواتها البرية، تواجه إسرائيل العديد من التحديات والمزيد من المعضلات التي يشمل بعضها مخاطر على القوات الإسرائيلية، بينما يتعلق البعض الآخر بأهداف استراتيجية وإنسانية أوسع. ربما تكون هذه التحديات سبباً في تأخير غزو واسع النطاق لغزة، وقد تدفع القادة الإسرائيليين إلى الحد من نطاق وحجم العمليات العسكرية بطرق أخرى أيضاً.
التحدي الأول هو طبيعة القتال نفسها. تبلغ كثافة سكانها لكل ميل مربع ما يماثل كثافة سكان لندن. وفي شوارعها الضيقة ومبانيها المكتظة، يتم تحييد العديد من المزايا التي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي على مستوى السرعة والاتصالات والمراقبة وقوة النيران البعيدة المدى. سيحتاج الجيش الإسرائيلي إلى تفكيك قواته التي ستصبح بعد ذلك عرضة لمجموعات صغيرة من مسلحي حماس. كما توفر الأنقاض التي خلفها القصف الإسرائيلي فرصاً لهذه المجموعات كي تجد غطاء ضد القوات الإسرائيلية وإقامة مواقع للقناصة وزرع فخاخ متفجرة. وجد الجيش الأمريكي أن العمليات الحضرية في الفلوجة صعبة ومدمرة للغاية. من المرجح أن تكون غزة أصعب. بخلاف المتمردين العراقيين الذين كانت الولايات المتحدة تقاتلهم في الفلوجة سنة 2004 والذين كانوا قد سيطروا في وقت متأخر على المدينة، سيطرت حماس على غزة منذ 2007 وقاتلت إسرائيل هناك مرات عدة منذ ذلك الحين. ربما توقعت الحركة رداً إسرائيلياً قاسياً على هجومها في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لكن حتى ولو لم يحدث ذلك، فقد استعدت حماس منذ فترة طويلة لتوغل إسرائيلي. قامت حماس ببناء شبكة أنفاق واسعة يُعتقد أنها أكبر من أنفاق مترو لندن. يمكنها استخدام هذه الأنفاق لإخفاء الإمدادات والقادة، وكذلك لضمان التواصل أثناء الصراع. القتال في الأنفاق كابوس، تابع بايمان. قارن الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل ذلك باستخدام تنظيم داعش لشبكة الأنفاق في الموصل والتي مثلت جزءاً صغيراً من حجم أنفاق حماس. وحذر قائلاً: "سيكون قتالاً دموياً ووحشياً". قد يستخدم مقاتلو حماس الأنفاق للظهور خلف القوات الإسرائيلية أو نصب كمين لهم أو حتى أسر المزيد من الرهائن. حاولت إسرائيل قصف هذه الأنفاق لكن من الصعب العثور عليها وتدميرها من الجو.
تسعى إسرائيل إلى تدمير حماس، وهو ما يعني عملياً قتل قادتها. مع ذلك، ثبت أنه من الصعب العثور عليهم. يمكنهم الاختباء في الأنفاق والاندماج مع السكان المدنيين. سيختار البعض القتال لكن المنظمة ممأسسة بشكل جيد وستسعى بلا شك إلى الحفاظ على قسم كبير من كوادرها القيادية.
نجحت إسرائيل في الماضي باستهداف حماس وقادة آخرين لكن ذلك كان عملية بطيئة وحتى احتلال شمال غزة يعني أن إسرائيل لن تسيطر على أجزاء
كبيرة من القطاع، مما يسمح لقادة حماس بالاختباء هناك. علاوة على ذلك، إن العديد من كبار القادة السياسيين في حماس لا يعيشون في غزة على الإطلاق، بل يقضون أيامهم في أماكن أكثر أماناً ضمن دول مثل قطر وتركيا ولبنان. ما يجعل الأمر أكثر صعوبة حسب الكاتب هو احتجاز أكثر من 200 رهينة لدى حماس ومن بينهم العديد من الرعايا الأجانب. على أقل تقدير، سيؤدي هذا إلى تعقيد القتال: فالمبنى الذي يختبئ فيه قادة حماس قد يكون فيه رهائن، وكذلك النفق الذي يتم فيه الاحتفاظ بإمدادات حماس. إن إرسال قوات لمهاجمة هذه المواقع، ناهيكم عن تفجيرها، قد يؤدي إلى مقتل الرهائن. بالإضافة إلى ذلك، هددت حماس بقتل الرهائن رداً على الهجمات الإسرائيلية. هي لم تفِ بهذا التعهد بعد، على حد ما هو معلوم، لكنها قد تفعل ذلك في المستقبل. بالفعل، كلما نجحت العملية البرية الإسرائيلية في ضرب حماس زادت احتمالات لجوء المنظمة إلى اتخاذ تدابير يائسة.
يتعين على إسرائيل أيضاً أن تأخذ بالاعتبار الكلفة المدنية في غزة. أدت عملياتها هناك إلى مقتل ما يقرب من 7000 فلسطيني، حسب وزارة الصحة التي تديرها حماس في القطاع، وقد تكون العمليات البرية أكثر دموية بكثير. في الماضي، أدى الغضب الدولي بسبب سقوط ضحايا مدنيين إلى قيام إسرائيل بوقف عملياتها، بالرغم من أن عدد القتلى الإسرائيليين المرتفع بشكل استثنائي نتيجة هجوم 7 أكتوبر قد يغير هذه الحسابات. من شأن هذا القلق أن يعقّد القتال، بينما تحاول إسرائيل الموازنة بين الخسائر في صفوف المدنيين والمخاطر التي تتعرض لها قواتها، فضلاً عن احتمال قيام حماس بخلط المقاتلين والأصول العسكرية بين السكان المدنيين.
خارج نطاق عملياتها المباشرة، أضاف الكاتب، حرمت إسرائيل غزة من الوقود والكهرباء وغير ذلك من الضرورات المدنية على أساس أن حماس ستستخدمها لأغراض عسكرية. أدى هذا بالفعل إلى خلق أزمة إنسانية ضخمة، وسيزداد الأمر سوءاً بمرور الأيام. إذا رضخت إسرائيل للضغوط الأمريكية والدولية لتوفير الخدمات الأساسية وضمان تدفق الغذاء والدواء إلى القطاع للمدنيين فستكون في وضع غير عادي يتمثل في تقديم المساعدات وشن الحرب في نفس المنطقة. وإذا فشلت في القيام بذلك فإن التكلفة البشرية المرتفعة أساساً سوف تحلق وسيدفع الثمن الأطفال وكبار السن وغيرهم من المدنيين. بالرغم من أن مصالح إسرائيل الاستراتيجية ورغبة قادتها في تهدئة الرأي العام الإسرائيلي المصدوم والغاضب ستشكل العوامل الأساسية التي تحدد العمليات العسكرية، سيتعين على القادة الإسرائيليين أيضاً أن يهتموا بالرأي العام الدولي وخصوصاً الرأي العام الأمريكي. أدت العمليات الإسرائيلية إلى احتجاجات في جميع أنحاء العالم العربي، ومن ضمنه دول مثل البحرين ومصر اللتين قامتا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. إن هذا التطبيع هو هدف دبلوماسي أعلى لإسرائيل ولن تعرضه للخطر بسهولة. والأهم من ذلك هو الرأي العام الأمريكي. لقد احتضن الرئيس جو بايدن وإدارته إسرائيل علناً، لكن يبدو أنهما يحثانها سراً على ضبط النفس. وبالإضافة إلى السعي للحد من التكلفة البشرية على الجانب الفلسطيني، يشعر المسؤولون في واشنطن بالقلق من المخاطر التي يتعرض لها الرهائن الأمريكيون وخطر انتشار الصراع في جميع أنحاء المنطقة وتهديد القوات الأمريكية وحلفائها. مع تصاعد هذه المخاوف، قد تتزايد الضغوط الأمريكية على إسرائيل للحد من عملياتها.
إن مخاوف الولايات المتحدة لها ما يبررها وفق، بايمان إذ من الممكن أن تمتد هذه الحرب من إسرائيل وغزة إلى معظم أنحاء الشرق الأوسط. هدد حزب الله بالانضمام إلى المعركة وكثف هجماته على إسرائيل من لبنان، وتتزايد الاضطرابات في الضفة الغربية. وأطلق الحوثيون في اليمن صواريخ على إسرائيل. كما عانت القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط من هجمات لوكلاء إيران، مما دفع الولايات المتحدة إلى ضرب مواقع مرتبطة بإيران في سوريا. من شأن حرب أوسع يشارك فيها حزب الله وغيره من الجماعات المدعومة من إيران أن تشكل تهديداً خطيراً على إسرائيل وتزيد خطر الإرهاب الدولي وتورط العديد من المصالح الأمريكية.
ستواجه إسرائيل تحديات أكثر جوهرية عندما تسعى إلى إنهاء عملياتها العسكرية. إحدى الصعوبات التي تواجه اجتثاث حماس هي مسألة من أو ماذا سيحل محلها. فالسلطة الفلسطينية بالكاد تمسك بالضفة الغربية، وستلحق الضرر بصدقيتها الضعيفة أصلاً بين الفلسطينيين إذا تعاونت مع إسرائيل في إدارة غزة في أعقاب غزو. وتتردد مصر ودول عربية أخرى في استقبال لاجئين فلسطينيين، ناهيكم عن تولي المهمة الفوضوية المتمثلة في إدارة غزة.
لكن إذا وجهت إسرائيل ضرباتها بقوة ثم انسحبت فستؤكد حماس نفسها من جديد بدون أن يكون هناك من ينافس سيطرتها. وتظهر استطلاعات للرأي أن حماس لا تتمتع بالشعبية، لكنها تظهر أيضاً أن منافسيها الفلسطينيين أقل شعبية وأنهم يفتقرون إلى الأصول العسكرية والشبكات الاجتماعية والاقتصادية التي تتمتع بها حماس في غزة.
إن الغضب في إسرائيل شديد السخونة ويطالب بتدمير حماس، لكن القادة الإسرائيليين يدركون أن العمليات ستكون محفوفة بالمخاطر وقد تؤدي بسهولة إلى نتائج عكسية. إن خطر وقوع المزيد من الضحايا الإسرائيليين والمخاوف الأخرى ربما يدفع البعض في الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك رئيس الوزراء نفسه، إلى التصرف بحذر.
قد تتضمن النتيجة النهائية بعض العمليات البرية، لكن من المرجح أن تتخذ نهجاً أكثر حذراً بشكل عام من الغزو الشامل والاحتلال طويل الأمد الذي بدا مرجحاً في أعقاب هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) مباشرة. وختم بايمان مقاله كاتباً أن مثل هذا التوجه لن يدمر حماس، بل سيؤدي إلى وقوع خسائر بشرية في صفوف إسرائيل والمزيد من المعاناة على الجانب الفلسطيني، لكنه سيسمح لزعماء إسرائيل بتقليص العديد من المعضلات الأصعب التي يواجهونها في غزة.