كاتيا الطويل
ينضم الشاعر اللبناني فوزي يمين إلى قافلة الأدباء الذين كتبوا في حب لعبة كرة القدم، ففي سياق بداية كأس العالم لكرة القدم الذي يدور في قطر هذا العام يقدم يمين كتابه الجديد "استراحة بين شوطين، عن كرة القدم أثناء الحرب اللبنانية (1975-1990)"، منشورات المتوسط 2022، وقد أصاب يمين في الجمع بين كرة القدم والحرب الأهلية اللبنانية التي نشأ في ظلالها وكان لاعب "فوتبول" محترفاً وشاعراً في وقت واحد، ومعروف أن مباريات كرة القدم العالمية وخصوصاً مباريات المونديال كانت تجمع بين كل مقاتلي الأحزاب والميليشيات، وكانت قادرة فعلاً على إيقاف المعارك لساعات، بل إن الميليشيات المتقاتلة كانت تلتقي حول فريق واحد أو لاعب واحد. في هذا الإطار أو المناخ تتم قراءة كتاب فوزي يمين.
بعد ألبير كامو (1913-1960) وجان جيرودو (1882-1944) وبيتر هاندكه (1942) والهولندي إراسموس (1466-1536) وغيرهم، يقدم فوزي يمين لقارئه نصاً يربو على الـ 200 صفحة ويتأرجح بين السيرة الذاتية ومعلومات شيقة عن تاريخ لعبة كرة القدم في كتاب يقع في حيز الحنين والسلاسة في التعبير، وعشق واضح لرياضة كرة القدم وأصولها ولاعبيها وتاريخها.
سطوة المونديال
يصدر هذا العمل "استراحة بين شوطين" في توقيت مثالي ومقصود حتماً، فقد أصدر فوزي يمين عمله عشية كأس العالم لكرة القدم 2022. بطولة عالمية تمتد لشهر وينتظرها عشاق كرة القدم كل أربعة أعوام ويتابعها العالم بأسره مهما كانت علاقته بهذه اللعبة خارج هذا الشهر.
بطولة عالمية يشبهها فوزي يمين بالشيطان الذي يغوي ويغري ويجذب الجميع، حتى إنه يورد تعليق الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس (1914-1996) في بداية نصه عندما تسأل "ما هذه اللعبة؟ هل هي شيطانية أم إلهية؟" (ص:194).
تتجلى لعبة كرة القدم في هذا الكتاب الذي يمكن وضعه ضمن فن السيرة الذاتية كمحبوبة ومعشوقة ومحور حياة الكاتب في سنوات شبابه، ففوزي يمين كان لاعب كرة قدم محترفاً عشية انتقاله إلى عالم الكلمات والشعر وبرع فيه كاتباً قصائد ونصوصاً جميلة وفريدة بجوها ولغتها، وتمكن من الجمع بين شغفيه في عمله هذا، بين الكرة والكتابة، ليتحول هذا الكتاب تحية للكرة وللاعبيها ولعشاقها.
ولا تخفى على يمين أهمية المونديال المنتظر والذي يتحول مدة شهر بكامله إلى محور الأحاديث والموضوع الأول في اللقاءات والجلسات بين الأصدقاء، كما يتحول مدخلاً إلى نقاشات فكرية اجتماعية ووجودية فيكتب، "ليس فقط أنها رياضة يمارسها مئات الملايين من الأشخاص حول العالم، والتي خلال شهر كامل، فترة المونديال، تغزو العقول من قارة إلى قارة، لكنها تفتح نوعاً من النقاش الخاص، ينطلق من كرة القدم ليطاول كل شيء تقريباً: الروك... ماركس أو بيكاسو." (ص: 188).
يكتشف قارئ "استراحة بين شوطين" أن الاستراحة المقصودة في العنوان إنما تقوم على ثلاثة محاور ولها ثلاثة معان، فالمقصود أولاً بالاستراحة هو الوقت الذي يحظى به اللاعبون في خضم المباراة والذي يقسمها إلى شوطين، وهو وقت مخصص للاستراحة والتقييم والتحضير للنصف الثاني من المباراة، وثانياً الاستراحة بين شوطين هي استراحة المتقاتلين أو الهدنة بين أشواط الحرب اللبنانية ومعاركها التي كان يغتنم الكاتب وجودها هو وأصدقاؤه ليلعبوا كرة القدم وينتقلوا من بلدة إلى أخرى وينافسوا الفرق المحلية، أما المعنى الثالث لهذا العنوان فهو استراحة الكاتب نفسه بين شوطين. أما الشوطان المقصودان فيبقيان مثار جدل، هل هما شوط اللعب وشوط الكتابة؟ أم شوط النصف الأول من العمر وشوط النصف الثاني؟ يأتي هذا العمل فعلاً كنوع من استراحة أو أرض وسط بين الكتابة والكرة، أرض يزرع فيها فوزي يمين حبه لهذه اللعبة وحبه للكتابة مبرزاً قدرته على التلاعب بالكلمات التي لا تضارعها سوى قدرته على التلاعب بالكرة، فيأتي فن السيرة الذاتية في هذا العمل هادئاً سلساً وفيه صدق وواقعية وحنين لأيام الشباب ولأيام احتراف كرة القدم. يعود فوزي يمين بقارئه إلى طفولته وبدايات عشقه لكرة القدم التي كان يلعبها مع أترابه في حارة ضيعته الشمالية زغرتا، مع وصف سريع سلس يخصص لكل فصل موضوعاً مختلفاً تمكن قراءته بمعزل عن الفصول الأخرى. وصف للأصدقاء وللزمن وللبيوت وللعادات وللجيران وللأم وللأب وللحرب ولرحلات الباص، ووصف لحقبة من تاريخ الكاتب ومن تاريخ وطن.
واللافت أن الكاتب في سيرته هذه قرّب كرة القدم من مصاف العبادة، فلم يتوان في إظهار ميله منذ صغره إلى لاعبي كرة القدم على حساب القديسين، فيكتب بأسلوب فيه ما فيه من ظرف عن تفضيله لصور لاعبي الكرة وخوفه من صور القديسين، فيقول الكاتب الطفل لوالدته في أحد مواضع النص، "أمي أشعر بالخوف عندما أنظر إلى صور القديسين هذه، ولا أقصد أن أجرح شعورك، ثم ماذا يفعلون في بيتنا؟ أليس لديهم بيت يأوون إليه؟ هل يحبون كرة القدم؟ هل يختلسون النظر إلى صور اللاعبين المعلقة فوق سريري عندما لا نكون في البيت؟" (ص: 33).
عدا عن ذلك يكتب فوزي يمين بصيغة المتكلم "أنا" عن مشاعره كطفل ومن بعدها كلاعب محترف قبل كل مباراة، وكأنه يجسد دواخل كل لاعب عشية مباراة مهمة فيكتب، "في الليلة السابقة للمباراة أحاول أن آوي باكراً إلى الفراش لإراحة عضلاتي، أتصور فريق الخصم في مواجهتنا، وتثير الصور التشنج في معدتي والخوف في قلبي ولا أدرك متى أغط في النوم". (ص: 73).
يكتشف قارئ فوزي يمين أن شغف هذا الأخير بلعبة كرة القدم يتخطى اللعب وحده ويصل حد حب قراءة تاريخ اللعبة وكل ما له علاقة بأهلها وعاداتهم وأخبارهم، ويذهب يمين إلى المكتبة منذ صغره ويقرأ عن كرة القدم وعن تاريخها وينقل شيئاً من هذه الأخبار والمعلومات إلى قارئه، فيخبره عن أصولها وعن تاريخها في أميركا الجنوبية في زمن يعود لـ 1500 سنة قبل الميلاد، كما يخبره عنها لدى الصينيين واليابانيين حوالى 200 عام قبل المسيح، وكذلك في القطب الشمالي وفي اليونان إلى أن أوجدت إنجلترا كرة القدم الحديثة (ص: 29).
يتناول يمين كذلك مشكلات اللاعبين وهمومهم والضغط الذي يتعرضون له، فيصابون أحياناً باكتئاب وقلق وخوف وتوتر، وبصراعات نفسية قد تودي بهم إلى الانتحار، فيقول يمين عن أحد اللاعبين "هداف أرجنتيني يدخل في حال حزن عميقة بعد إهداره ركلة ترجيح، ويعترف أنه عندما أهدر ضربة الجزاء شعر أن العالم كله انقلب رأساً على عقب" (ص: 42).