يعد ٨ شباط من الذكريات المؤلمة في تاريخ العراق، فهي ذكرى الانقلاب البعثي الأول في عام 1963، الذي شكل نقطة فارقة في تاريخ الدولة العراقية والمنطقة العربية. وبعد شهر واحد بالضبط، تبعه انقلاب آخر في سوريا في ٨ آذار من نفس العام، وهو ما مهد لظهور البعث كقوة سياسية رئيسية في بعض البلدان العربية.
بعد عقود من الصعود، سقط المشروع البعثي في العراق وسوريا بشكل واضح بعد حرب الخليج الثانية 1991، ثم في عام 2003 في العراق بعد الغزو الأمريكي واخيرا سقوط نظام الاسد في سوريا. انكشفت عيوب هذا المشروع عندما فشل في تحقيق الوحدة العربية المرجوة، وأدى إلى صراعات داخلية وحروب دمرت العديد من المجتمعات العربية. أثبت البعث في تجربته أنه لم يستطع الجمع بين القوة العسكرية والسياسة الاجتماعية بشكل مستدام. وبعد فترة من الحكم الاستبدادي، ظهرت حقيقة أن الشعب العربي لم يستفد من هذه الأنظمة التي كانت تركز على الأيديولوجيا على حساب رفاهية المواطن. قبل ذلك فشل المشروع الليبرالي الملكي الذي ساد في العديد من دول المنطقة في القرن الماضي، وانهارت الأنظمة الملكية بعد الثورات الوطنية. كان هذا المشروع يهدف إلى تأسيس دول حديثة قائمة على قيم الديمقراطية والحرية، ولكن كان يواجه مشكلات اقتصادية واجتماعية كبيرة. فقد انتشر الفساد في بعض تلك الأنظمة الملكية، وتراجع مستوى الحياة في ظل الاستبداد الملكي، مما أدى إلى سقوطها. تلا ذلك فشل الأنظمة الثورية التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية، وتبنت أفكارًا قومية أو اشتراكية أو حتى ناصرية. على الرغم من أن هذه الأنظمة حققت بعض التقدم في بداية حكمها، إلا أن معظمها انتهى بالفشل في تحقيق تطور مستدام. وكانت تلك الأنظمة تتسم بالقمع السياسي، وتغلبت الأيديولوجيا على الحلول العملية لمشاكل الشعوب، وأدى ذلك إلى فشل هذه المشاريع في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية على المدى البعيد.
تلا ذلك فشل مشروع المحاصصة في العراق في تحقيق التنمية والإزدهار بعد غرقه في بحر الفساد والتخبط السياسي.
لقد فشلت المشاريع السابقة بكل تنوعاتها: المشروع البعثي العروبي، المشروع الليبرالي الملكي، المشروع العسكري الثوري، و مشروع المحاصصة. ما نحتاج إليه اليوم هو أن ننظر نحو المستقبل بشكل مختلف، وأن نطور مشروعًا حضاريًا جديدًا يتجاوز الأخطاء السابقة ويواكب التحديات الحديثة. يقوم المشروع الحضاري على إصلاح شامل يبدأ من تطوير النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي. يركز المشروع الحضاري على تحقيق العدالة الاجتماعية، التي تشمل تحسين ظروف العيش للمواطنين، وتوفير الفرص المتكافئة للجميع ضمن منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري للمجتمع والدولة.. يعتمد المشروع الحضاري على تطوير التكنولوجيا الحديثة ودمجها في جميع قطاعات الحياة، سواء كان في التعليم أو الصحة أو الاقتصاد. إن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة يمكن أن تكون القوى المحركة لتقدم المجتمعات في مختلف المجالات.
ويرى المشروع انه لا يمكن بناء دولة حضارية حديثة دون احترام الهوية الثقافية للمجتمع. فالمشروع الحضاري لا يعني تقليد الأنظمة الغربية أو التخلي عن القيم المحلية، بل يهدف إلى تعزيزها في إطار رؤية عصرية. يتطلب المشروع الحضاري الحكومات التي تتسم بالشفافية والمحاسبة، حيث تكون القرارات السياسية نتاجًا لمشاركة المواطنين في الحياة العامة. الديمقراطية الحقيقية، بما في ذلك تعزيز الحقوق الفردية والمساواة، هي الأساس لبناء هذا النظام.
و ويهدف المشروع الحضاري إلى تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، بحيث تكون التنمية لمصلحة الجميع وليس لفئة معينة. في ظل تراجع المشاريع السياسية السابقة وظهور فشلها، يبقى أمامنا فرصة كبيرة لتبني المشروع الحضاري الذي يتناغم مع التغيرات العالمية ويواكب التحديات المحلية. علينا أن نبدأ بوضع أولى خطوات الانتقال من الانغلاق السياسي والفكري إلى الانفتاح على فكر حضاري معاصر، يعزز من تطور الأمة ويضمن لها مكانة مرموقة بين الأمم.