في مجموعة «تعريف متشابه جداً»
27-آب-2023
د. سمير الخليل
تتشظى الرؤى وعوالم الوجع في مجموعة (تعريف متشابه جداً) للشاعرة رؤى زهير شكر الصادرة عن (اتحاد أدباء العراق- بغداد، 2022) على شكل استنطاق لما يتراكم من الرماد والأحزان التي تغزو الواقع وتحيط الذات الإنسانية بسودايتها وحمولتها وأعبائها التي تجعل الإنسان يبحث عن ملاذ للتحرر من ربقة الخراب على شكل حلم وخلاص ونشدان للحريّة.
أهم ما يميز هذه المجموعة تلك النزعة إلى الشجن كنوع من التماهي مع الوقائع وتحريض الشعور للتوثّب صوب وجود أجمل وأسمى وانقى لجعل القصيدة تعبيراً عن السؤال الإنساني والوجودي، ووسيلة لإحصاء ما تلبثَّ ليحيل البياض إلى سواد، والحلم إلى كابوس، والانتظار إلى اللاجدوى في معادلة لا تنبئ إلاّ بانكسار اخترق المعنى وغاب الإنسان والحقيقة في عالم مكتظ بالصدأ والبارود والاستبداد والقمع والحروب، ونضوب المسرّات وصوت مدو يذكّر بأن الإنسان هو قصيدة البقاء، وربيب الأوطان وليس طريد الكوابيس والمنافي والموت في ساحات التظاهر.
ما يميّز نصوص (رؤى زهير) أنها لا تتكئ على شعرية الشجن واستجداء التعاطف الشعوري العابر، بقدر ما يعبّر الموقف الشعري وتلّبسه التراجيدي عن نوع من استشراف ورصد الواقع المأزوم ورفضه وادانته، بل إدانة القبح والحروب وشراسة التسلّط ورثاء الغياب والصمت والبرود، ولكي تجرّد الخطاب الميلودرامي من نكهة الحزن المحض أسفرت عن مضمر (غنائي)، ورومانسية المفردة لتشكّل صياغة تجمع التضاد بين المحتوى المؤسس للشجن وبين رسم ملامح التعبير على شكل استبصارات شفيفة تلتقط بؤرة النقاء الضاج وسط العتمة والبرود وأجراس النهاية.
وأسهمت جمالية الأداء اللغوي والصوري في تعميق الاحساس الجمالي باللّحظة الشعرية المأزومة والتعبير عنها بنسق لا يجعلها تنغلق على رثاء خالص بقدر تعمّقها في إدانة الواقع، وجعل الألم وسيلة للخلاص والتطهر، وصياغة نهار بازغ جديد، ويمكن القول إنها وظّفت جمالية الوجع لتكشف عن اشتغال شعري لم يسع إلى الاجترار التقليدي، بقدر ما يبحث عن حجم المعنى والتعالي الذي يحيط بهذا الانكسار الذي حدث للإنسان والوطن والأرض وأشواق التوق والجمال المهدد بالخراب والخوذ المثقوبة.
ولم تتمركز المجموعة حول مضمون أو توّجه أحادي بل قدّمت المجموعة ارتحال في عوالم المكابدة، والوجع وتوّزعت بين الهم الذاتي والهم الموضوعي ويمكن قراءة العنوان تأويلياًً بوصفه اشارة بدئية لمحاولة تعريف (الوجع) المتشابه جدّاً في عوالم الإنسان ومأزومية الواقع حتى يمكن القول بأن البوح الشعري عندها قد استمال إلى نوع من (التطهير) لإشاعة بأن كثافة للحزن تعني كثافة الاحتجاج والوعي بلحظة تجلّ ترمّم ما بقي من صحو وتوّهج في نص (اسرّة الموتى):
نحن الخارجين من أزمنة الموت / الفارّين من عنق القصائد
الهاربين كآخر رذاذة من مسار النوافير الحمر / وجوهنا نصف بشرية
شفاهنا متحجّرة بنعي الثكالى.. / أصابعنا المبتورة من العض ندماً
على مدى طردتنا من رحمها... (المجموعة: 7).
وفي هذا النص كما في غيره تتجسّد صورة (الذات المنفية) وهي تطرد من رحم الوقائع باتجاه المنفى والتصحّر والتمزّق، ويتحوّل الإنسان إلى خبر ونعي وغياب وتظل البقايا تتساءل عن لعنة يقودها الموت بكلّ أشكاله لمطاردة ونفي الحياة.
اتسمت المجموعة بوجود إضمامة من النصوص التي جسّدت وقائع ومخاضات التظاهر التشريني، وما حدث آنذاك من تصادم بين طلائع الشعب وسدنة التسلّط والقمع قرب جسر الجمهورية وساحة التحرير، وجسّدت هذه النصوص القدرة على تقديم رؤية مشهديّة، والتقاط لكلّ جزئيات التوثّب ومقاومة القبح ولم تخلُ النصوص من جماليات اللّغة والصورة الشعريّة وجاء التركيز على (المكان) بوصفه المعادل الموضوعي لوجود الوطن وفي تظاهر يهتف بعنف (نريد وطناً)، ففي نص (دخانية عابرة) تقول:
الشوارع/ التي تضج بعطر شبابها
تحتفظ بصورهم المؤطرة بشظايا اللّيل العصيّ
حين تمس وجوه العابرين نسمة من بقاياهم / تمر غيمة لزجة
تهمس بحكايات الشوق عن مواعيد قضم الدخان الأبيض أطرافها..
ففي أقصى الفجر / كفّ ثكلى
مرفوعة صوب وجود الله... (المجموعة: 9).
نلحظ التركيز على الفضاء المكاني وظواهر المشهد (العتمة، الفجر الدخان الأبيض، الشظايا، غيمة لزجة، كفّ ثكلى، ..) هذه هي مثابات البيئة التي تشهد هذا التوق إلى الحريّة ومعانقة المجهول بقوّة.
ومن ضرورات التأشير ملاحظة البنية المشهدية في تجسيد صور وانتقالات النص ولملمة أجزائه، وتشظي الموجودات كنوع من التماهي مع اندفاعة الشر والقمع الذي يحيل الواقع والمشهد إلى بؤرة من التشظّي العدمي ولم تجد تلك الأرواح والأجساد وهي تنتفض سوى النظر صوب السماء، صوب الله، كنوع من البوح لملاقاة الجمال والحقيقة والإشارة إلى أن ما يحدث هو لعنة الأرض وليس بهاء العلو السماوي المتمثّل بحلم البقاء، وحلم الإنسان وحلم الوجود المضاد للتسلّط بكل صنوفه وتداعياته، إنها ليست دخانية عابرة بل مشهد يضيء عمق لجرح والمحنة واسترسال العنف العبثي.
ونلحظ في نص (عصا الدمع والذاكرة) تنويعاً للوجع والتظاهر والتوثّب الذي يمثّل صولة الوعي لفتح أبواب أقفلها جنون العساكر:
على جسر الجمهورية
اذرّني ورماد الذين ثقبت رؤوسهم دخانيات طائشة ..
ريحها عاتية / على شاطئ دجلة ابتكر أغنية لكل الثكالى اللائي لم يستطعن أن يلمسن جباه أولادهن في الوداع الأخير..
لأتركني نورسة / مشّطت أرصفة التحرير بحثاً عن دماء خافقة
تعثّرت مراراً بصدى (نريد وطناً)... (المجموعة: 11).
والنص سيناريو صوري لمتابعة مفردات المشهد التراجيدي وتصعيد البوح بالجسد باتجاه معانقة الوداع الأخير أمام جسر الجمهورية الذي أصبح دالّة من دوال الرمز للوطن وبقربه يقف نهر دجلة وهو يراقب وحشية السلطة وتترها يفتكون بالشباب والحلم ويشوهون الفجر بالدخان الأبيض والرصاص، ونجد حضور الأمّهات الثكالى مثل طيور بيض ترفرف في المكان.
لم تنزلق هذه النصوص ذات التوّجه الوطني العميق المشوب بروح وطقوس التظاهر الى مستوى الاداء التعبوي، بل كانت تقدّم ترسيمة إنسانية، مشهدية، لمتابعة الفعل النوعي والاحتجاج الحالم المؤطّر بوعي البحث عن الذات والوطن والحلم السليب وفق انتقالات ورؤى شفيفة تجعل من النص ينطوي على متعة الرصد وتجسد بؤر القوّة والاندفاع وسحق الآخر الغارق في العدميّة والقمع والكراهية والعبث، ويضع النص (عصا الدمع والذاكرة) ترنيمة الخلاص على شكل أمل منبعث من بين الخراب والأحزان وهو يرنو ويؤسس لوجود يولد في جبهة الشمس، ويناجي الفجر والنجمة والصمت المهيب:
حتى تحت الفجر من بارودها نجمة / تغزل من نوافير الموت حلماً بعراق
(باسم سعيد)... (المجموعة: 12).
وهناك نصوص غرائبية ترصد طقوس الموت في المقابر وتتّخذ من (المكان) فضاء للبوح ويتحوّل بطاقته الواقعية والرمزية إلى فكرة الإدانة للموت والتمزّق والتلاشي كما في نص (عباءة الله):
ذات رؤيا/ تتحول (كاميرا) الفجر في أروقة المقابر تبحث عن وجوه لم يغيّر التراب شيئاً من ملامحها ترسم لهفة شوق ولقاء/ تتعثر بركام الهياكل العظيمة ثمة قبر لم يجف طينه بعد..
تحيطه سنابل من فجيعة وطن مبلّل بكافور الفقد وشهقة أبٍ لم يستطع تجاوز اللّيل...
رويداً تخرج أصابعه المبللة بدمع أمّه..
تشق طريقها الأهوج متسائلة... (المجموعة: 13).
هذا التوغل الغرائبي في المكان المقبرة يقدّم صورة لمتابعة طقوس الموت وتقطع الأوصال وتحوّل الإنسان من فكرة ضاجّة بالبهاء إلى جزئيات متصحرّة تذوب في تراب المقابر والكافور والصمت البليد، وحضور الأم والأب كأرواح تبحث عن ذات كانت في يوم ما تمثّل معنى الحياة، فالنص ارتكز على مقاربة رؤيوية بين الموت والحياة وتجسيد أجواء الموت الغرائبية وهو يمنح الإنسان بالنهاية والوجود بالختام في مكان يضجّ بالتلاشي كالمقبرة، وهذا من النصوص التي امتازت ببراعة التشكيل على مستوى الأداء التعبيري والمحتوى الغرائبي الدال وفي إدانة القبح والموت والنهاية العدميّة وانكسار البوح، أمّا في نص (خناجر مؤجلّة) فنتلمّس براعة الاستهلال الصوري، وتوظيف ظاهرة أو اسلوب التوكيد لتعميق الدلالة والمعنى في مفردة (كلّما):
(كلما) هممت بكتابة حرف / يئن الليل وتشتعل ذؤابة أحلامه
أتذكّر وأد طفلة روحي/ كانت منفضة لرماد أيامك المجمرة...
(كلّما) طببّت جراح أمنية، نسيت في طيّاتها هوامش نبضت ما زال نازفاً حتّى اللحظة
(كلّما) سرقت من جدار الوقت ساعات لوجدك تذكرتُ أن الصدع في سقف رأسي يكبر / (كلّما) اعتليت منصّة هاجرت بيّ القصائد. (المجموعة: 15).
هذا نص فيه كثير من استثنائية التعامل والصياغة الشعرية عبر متواليات مشهدية تتعمّق في الوصف الجمالي، والعمّق السايكولوجي ورسم ملامح القلق الداخلي وفق تدفّق وعناية جمالية في تشكيل الصورة الشعريّة الموحية وتوظيف الإزاحة في تحقيق أقصى غاية باتجاه المعنى والإيحاء وتوالي الانتباهات الخفيّة التي ترسم تدرّجات الصراع الداخلي والتشابك مع الآخر.
ونلحظ في نص (لعينيه ما أعني) اشتغالاً وتركيزاً على جمالية التجسيد البصري والعناية بأركان الصورة الشعريّة وتوافر الأداء التعبيري للمفردة الشفيفة المعبرّة عن معنى دال وعميق.. / لا شيء يزهر في هذا الليل المحترق/
إلاّ الشوق تذوي ذؤابة قنديلة في الروح رويداً تشتعل النجوم/ نفساً/ نفساً وأنا على قيد نبضك.. / ما زلت أسجر تنور لهفتي/ ألملمني
(كلّما) داعبت صوتك مخيّلتي... (المجموعة: 18).
تتمركز هذه الفيوضات في أجواء البوح الغنائي ورومانسية اللغة والصورة والإيحاء بغزل يشبه التجسيد لفكرة صوفيّة تشتغل على ثنائية الروح والجسد، واللهفة والإشراق الداخلي، ويمكن الاستدلال على مفردات متحركة وهي تحمل مسحة التوق والشغف (الذؤابة، القنديل، النفس، الإشتعال، النجوم، النبض، السجر، التنّور...) كلّها شواخص وتردّدات توحي بالومضة والمحركة والتدّفق لتؤسس جوهر الانتماء والبحث عن الآخر المتشظي في أعماق الذات.
أما نص (تذكر) فنلحظ هناك اقتراناً جمالياً دلالياً بين الحلم والوطن والموت والانبثاق الوجودي في لوحة ترتكز على السؤال والبحث عن الرؤى وملامح الخلاص وتحيل إلى تفعيل وحي (التذكر) لترميم ما تبقّى من المعنى:
وأنت تبحث عن شتات أحلامك/ أن تترك قافية بلون الدم / ولا تنسَ
وأنت تبحث عن لآليء دجلة أن ترمّم دمع الثكالى وتعلّقها نجوماً ناحبة
لا تنس / وأنت تبحث عن قبرك / أن تترك على شاهدتك قصيدة
ترثي كل ما نزفت من دمع/ لا تنس... (المجموعة: 21).
لعلّ براعة أو جمالية هذا النص تكمن في أنه يوظف ضمير المخاطب ويتوغل في فضاءات متحرّكة وموحية ويركّز على أنسنة الذاكرة وينطلق منها لأنها الخزين أو الصورة الموازية لجوهر البقاء، إنّها قوة التوثيق الذي يتحوّل إلى وعي وادراك وتأسيس لتوّجه حدوسي لصياغة حلم يتجاوز محنة الموت يبشر بالحياة التي هي جوهر الحلم الإنساني، والدالة على كينونته وسطوعه وتوقه الوجودي المحتدم.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech