علي عطا
ستظل مقاربة روايات نجيب محفوظ نقدياً تأتي دائماً بجديد، حتى ولو تعلق الأمر بناقد محدد، سيجد في عمل معين لصاحب "أولاد حارتنا" ما يعد مختلفاً عما سبق أن وجده في العمل ذاته، وفقاً لمناهج شتى يعرفها النقد الأدبي. وما سبق هو بالضبط ما يتكئ عليه حسين حمودة في كتابه "في غياب الحديقة... حول متصل الزمان/ المكان في روايات نجيب محفوظ" (سلسلة كتابات نقدية – الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة)، إذ يستهله ويختتمه بالقول: "ما أكثر ما كتب، وما قيل عن أعمال نجيب محفوظ، ما أكثر ما يمكن أن يكتب عنها، وأن يقال". هكذا استهل حسين حمودة كتابه، وهكذا اختتمه. وما بين الاستهلال والختام، رحلة لم ينتهِ الدافع الذي انطلقت منه، ومن ثم يقول صاحبها: "لا نزعم أننا قد وصلنا إلى خاتمة ما، بل وصلنا فحسب إلى بداية أخرى". فعالم نجيب محفوظ قبل تلك الرحلة وبعدها، يظل حافلاً بأسراره التي تدفع إلى الاستمرار في محاولات مقاربتها، بما يجعلها تتصل وتترى واحدة بعد أخرى.
والكتابات التي قاربت أدب نجيب محفوظ، تبدأ في رأي كثيرين، ومنهم محفوظ نفسه، بمقال كتبه سيد قطب عن رواية "كفاح طيبة" الصادرة عام 1944. ويظل كتاب "المنتمي: دراسة في أدب نجيب محفوظ" للناقد غالي شكري، والمنشور عام 1964 من أهم تلك الكتابات، علماً أنه ركز على المجموعات القصصية لمحفوظ من "همس الجنون" الصادرة عام 1948، إلى "خمارة القط الأسود" المنشورة عام 1971. وهناك لإبراهيم فتحي "العالم الروائي عند نجيب محفوظ" 1978، ولجورج طرابيشي "نجيب محفوظ فيلسوفاً بالوكالة" 1988، ولرشيد العناني "نجيب محفوظ من خلال رواياته"، ولريشار جاكمون "نجيب محفوظ من خلال رواياته"، ولمحمود الضبع "أزمة النقد وانفتاح النص... نجيب محفوظ والفنون السبعة" (2020)، ولفيصل دراج "الشر والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائية" 2022. وكثير من تلك الكتابات يدخل في قائمة المراجع التي اتكأ عليها حسين حمودة لإنجاز كتابه "في غياب الحديقة".
بين طبعة وأخرى
وهذا ما يدفعنا إلى سؤال تتصل جوهريته بالسياق الذي انطلق منه حسين حمودة تحديداً، وهو لماذا أعيد نشر كتاب "في غياب الحديقة" بعد مرور نحو 15 عاماً على صدور طبعته الأولى من "مكتبة مدبولي" في القاهرة؟ وللسؤال وجاهته في ضوء أن الطبعة "الجديدة"، لا تتضمن جديداً يميزها عن سابقتها، فضلاً عن خلوها من أي إشارة لطبعة مكتبة مدبولي، علماً أن المؤلف – متعه الله بالصحة – كان من الممكن أن يعدل في الكتاب نفسه بالحذف أو الإضافة، أو أن يفسح المجال لدراسة أخرى، سواء له أو لغيره من النقاد، تقدم متناً مختلفاً، في سياق مقاربة روايات نجيب محفوظ نقدياً، وخصوصاً أنه يرأس دورية معنية بهذا الشأن، تابعة للمجلس الأعلى المصري للثقافة. ولطالما كانت أعمال نجيب محفوظ والكتابات التي تتناولها محط اهتمامه بوصفه أحد أبرز الأكاديميين في ساحة النقد الأدبي في العالم العربي. ويمكننا الاستناد بثقة تامة إلى ما قدم به حمودة نفسه عمله هذا في سياق تأكيده وتأكيدنا أهمية تقديم ما هو جديد، وهو ما لم يتحقق بإعادة نشر هذا الكتاب كما هو، من خلال هيئة تابعة لوزارة الثقافة، ويتولى الدرجة الأعلى في الإشراف على النشر فيها الشاعر جرجس شكري، المولع على ما يبدو بإعادة نشر الكلاسيكيات، لكن كتاب حمودة ليست من الكلاسيكيات. وإذا افترضنا أنه نفد لدى ناشره الأصلي، فإن ذلك لا يبرر إعادة طبعه من دون أن تحتوي الطبعة الجديدة ما يميزها عن سابقتها، في الطرح والرؤية، خصوصاً أن "روايات نجيب محفوظ بغناها وبقدرتها على البث المتجدد، ستظل تكتنز تلك الغواية الجاذبة التي تستثير العديد من محاولات الفهم والتفسير، محاولة تستكمل أخرى"، بتعبير حمودة نفسه.
حضور الحديقة
العنوان، كما يؤكد حمودة، لا يطابق الكتاب تماماً، إنما يدانيه، أو يناوشه فحسب. ولعل هذه المسافة ناجمة في تصور المؤلف عن محاولة تجنب استخدام مفردة قد تبدو ثقيلة في عنوان كتاب، ولكن لن يكون هناك بدن وربما لا بأس من استخدامها، ثم تكرار هذا الاستخدام داخل فصول الكتاب. والمفردة المقصودة هي مصطلح الزمكان أو الـ"كرونوتوب" Chronotope الذي صاغه باختين ضمن مفاهيم استصفاها من تحليلات نافذة وثاقبة (بتعبير حمودة) لا تزال تثبت حيويتها وقدرتها على الاستمرار في تحليل أعمال روائية – وأدبية وفنية عموماً – متنوعة تنتمي إلى تجارب تترامى في اتجاهات شتى خارج المجال الثقافي الذي انبثقت منه هذه المفاهيم وتشكلت فيه.
بالتالي فإن مفردة الحديقة الواردة في العنوان هي واحدة من مفردات ذات دلالات مكانية وزمنية أيضاً، خصص حمودة الفصل السابع والأخير من كتابه، لتتبع تكرارها في روايات نجيب محفوظ على تنوع عوالمها وامتداد زمن إبداعها واختلاف تواريخ صدورها، "كأنها تيمات ثابتة - فيما تمثل – جزءاً من لغة قارة في عالم محفوظ الروائي، وإن اختلف تجسيدها – بهذه الدرجة أو تلك من الاختلاف – من رواية لأخرى" (ص212). تتجسد الحديقة في روايات نجيب محفوظ، "موطناً لفردوس أول جميل، خارج غبار العالم وخارج جحيمه، يلوح البقاء فيها – إذ نحن داخلها – كحلم ويستعاد عالمها – إذ نحن خارجها - مرات ومرات، ولكنها تظل هناك وسماً على عالم ما، في زمن ومكان ما، بهي الملامح، مراوغ الحضور" (ص265).
بداية بلا نهاية
يسعى كتاب حمودة إذاً إلى مقاربة روايات نجيب محفوظ من منظور ينطلق من نقطة محددة، تتمثل في مفهوم متصل الزمان/ المكان، الذي تنتسب صياغته إلى ميخائيل باختين، وهذا ما يميزه عن ما كتب سابقاً ولاحقاً عن أدب صاحب رواية "أولاد حارتنا". ومع ذلك ينتهي الكتاب ذاته من دون أن ينتهي، سواء الدافع أو الطموح اللذين انطلقت منهما رحلته، إذا جاز التعبير، بالتالي فإن تلك النهاية ليست في واقع الأمر سوى بداية أخرى، بما أن عالم نجيب محفوظ قبل بداية تلك الرحلة وبعدها يظل حافلاً بأسراره التي تدفع إلى مزيد من محاولات استكشافها، محتشداً بقيمه وأبعاده الفنية التي تشجع على المحاولة مراراً وتكراراً، وإلى ما لا نهاية.
وعلى أية حال فقد سعى كتاب حسين حمودة إلى تقصي بعض "الزمكانات" التي تتردد في روايات نجيب محفوظ باستثناء رواياته التاريخية الثلاث الأولى. أي إن الدراسة هنا تشمل 32 رواية، سعياً إلى استكشاف فكرة واحدة فحسب مرتبطة بمفهوم الزمكان، من حيث تبين بعض وجوه حضوره الأساسية في هذه الروايات، من جهة، وتعرف نماذج من مستويات هذا الحضور وكيفياته، من جهة أخرى، ومن ثم تلمس مدى انخراطه في موضوعات زمكانية بعينها، ينطلق منها حمودة من جهة ثالثة.
التجدد والاستمرار
ومنذ البداية يتجلى إدراك حمودة أن التعامل مع الروايات التي أبدعها نجيب محفوظ على مدى يزيد على أربعة عقود، بمنحى يضعها على مستوى أفقي، كأنها نص واحد متصل، هو أمر يغفل التمايزات المؤكدة في ما بين هذه الروايات، فضلاً عن تنامي رحلة الكاتب وتغاير معالمها. وفي هذا الصدد على وجه الخصوص لاحظ حمودة أن تجربة نجيب محفوظ اتسمت بالتجدد والاستمرار، والقدرة على النفي والتجاوز، والنزوع – الذي لم يتوقف أبداً - نحو خوض مغامرات فنية متعددة. والموضوعات الزمكانية التي انطلق منها حمودة وتقصاها في روايات نجيب محفوظ عبر غالب غصول الكتاب، ليست متطابقة أبداً، إذ لا يجمعها سوى عناوين يمكن أن تعد بمثابة أطر أو دوائر تجمع عدداً من الروايات جمعاً أولياً أو تحيط بها إحاطة أولية، بما يرسم حدود الفصل في محاولة حمودة هذه، ولكن داخل كل دائرة (فصل) هناك مجموعة من دوائر أصغر تحتوي الروايات التي تندرج فيها، ثم داخل هذه الروايات يمكن أن تتمايز ملامح الزمكان.
وأخيراً، يمكنني القول، متبنياً وجهة نظر المؤلف والناشر غير المعلنة، إنه لا بأس من إعادة نشر كتاب "في غياب الحديقة"، بما أن طبعة مكتبة مدبولي كانت محدودة، فيما "قصور الثقافة" واسعة الانتشار، لكنني في الوقت ذاته متمسك بأنه كان ينبغي ذكر ذلك في الطبعة الجديدة احتراماً لحق القارئ في معرفة أنه بصدد كتاب قديم، وليس كتاباً جديداً، كما يبدو للوهلة الأولى.