د. حمدي موصللي/ دمشق
من الصعوبة بمكان وضع نص الكاتب العراقي صباح الأنباري (زهور وعقارب) تحت أي تصنيف من التصنيفات المسرحية المتعارف عليها، وهو ليس تلميحاً لأي شيء عدا الشيء الذي يريد قوله، وهو ليس مجازا، ولا ينبغي أن يفسر إلا بما يريد أن يقوله أو يشير إليه.
المسرحية كراس مسرحي غاضب عن شخص فردي السلوك هو الأب نصف المتزن وصلب الرأي. ويذكر بشخصية الدكتور توماس ستوكمان في مسرحية (عدو الشعب) لهنريك أبسن، ستوكمان الغاضب دائما والمضحك وصلب الرأي والعنيد والذي يضحي بكل شيء في صراعه مع الأكثرية. لا ينتهج نص زهور وعقارب التقسيم الفصلي، فهو مكون من مشهد واحد مستمر منذ البداية وحتى النهاية. تنطوي المسرحية على مضادات لمفردات تحمل معانيها دلالات مباشرة وواقعية على نحو (الخير والشر) – القوة والضعف- السيد والعبد- الحرية والقهر ) كما تحمل معانيها دلالات غير مباشرة (رمزية) على نحو (الجمال والقبح- الزهور والعقارب ) وهذه الثنائيات تنم عن فهم لواقع معاش وراهن ويومي تقصده الكاتب عن عمد ليقحم المتلقي فيه ويجبره على التعاطي معه سلبا أحيانا، وعلى الغلب إيجابا، وهذا يعود الى نوازع الفرد في الاختيار أولا كأن يكره أو يحب، كما يعود الى مقدار الوعي بتيارات المجتمع المتعددة من سياسية واجتماعية واقتصادية وتاريخية والكم النوعي الذي يمثله هذا الوعي.
تروي المسرحية حكاية أسرة غنية يتزعمها أب متسلط على ابنين هما سديد ونوار، ومجموعة خدم وموظفين متعاونين معه كالطبيب، بالإضافة الى شخصيتين سلبيتين مكملتين لنسيج الحدث وهما شخصيتان نموذجيتان في المسرحية (وداد والفنان).
المشهد العام عبارة عن صالة مؤثثة بأثاث فخم، تزين جدرانها لوحات زيتية غاية في الجمال.. موسيقى ومؤثرات غرائبية وإضاءة غير ثابتة تنير عدة مرات قبل أن نسمع صرخة نوار: "نوار: (صارخا ومتألما) آخ.. لقد لدغت.. لقد لدغت يا أبي. الأب: (بدهشة) لدغت! كيف؟!
نشعر للوهلة الأولى أن هناك كائنا شديد الخطورة، وهو مرعب ومخيف ولا ملامح له ولا شكل وغير مرئي ويقوم بعملية اللدغ ويضعنا في دائرتي التساؤل والاستغراب حول من هو؟ وما هو شكله وملامحه؟ ولم لم يظهر؟ وأين يختبئ؟ الى آخر هذه الأسئلة الملحة التي تزداد غموضاً مما يجعلنا نلحّ عليها ضمنيا الى درجة التشكيك الذي نتقبله متضامنين مع الوالد الذي يتهم ابنه سديد بعملية اللدغ بهدف التقليل من استغرابنا كشكل من أشكال التواطؤ، وأيضا بهدف التقليل من حالة عدم الاستقرار والخوف التي تسيطر على المكان بما فيه وعلى المتلقي قارئا أو متفرجا:
"سديد: (بتجاهل) هل لدغ شقيقي حقا؟
الأب: سديد.. أنا الذي يسأل (صمت) كنتما معاً قبل أن يصرخ.. أليس كذلك؟
سديد: نعم.
الأب: إذن أنت تعترف انه تركك ولدغ.
سديد: لا.
الأب: كيف لدغ إذن؟
سديد: لم افهم.
الأب: بل تفهم.
سديد: أبي.. أنا لم ألدغ شقيقي حتى تحدثني بهذه الطريقة.
الأب: بالتأكيد أنت لست عقرباً أو أفعى.. أنت أكبر من ذلك بكثير (بلهجة أمر) اسمع.. أنا اعرف أنك الوحيد الذي يستطيع أن يدبر لعبة الظلام".
ويستمر البحث عن الفاعل بضغط شديد من قبل الأب والخدم، ويستمر معه التساؤل، ويزداد التوتر والصخب والخوف على الجميع حين يعلن طبيب المنزل:
"الطبيب: ثمة حال تسمم غريبة يا سيدي.
الأب: ماذا؟! (ينظر الى سديد شزرا).
الطبيب: نجلك تعرض لحال لدغ من قبل كائن غريب.
الأب: كائن غريب؟! ماذا تقول أيها الطبيب؟!
الطبيب: دعني اشرح لك الأمر يا سيدي.
الأب: حسن.. تفضل.
الطبيب: عندما بدأت بمعاينته تبادر الى ذهني انه مصاب بالتسمم جراء لدغة عقرب سام جدا، ولكن ما أن أمعنت النظر الى ذراعه التي تضخمت على نحو غريب حتى تأكد لي أن ما تعرض له شيء مختلف تماما.
سديد: (متدخلا) وما ذلك الشيء أيها الطبيب؟
الطبيب: شيء أجهله لعدم حدوثه من قبل.. أنت تعرف أنني تخصصت بدراسة السموم كلها، لكنني لم اعرف سما بإمكانه أن يفعل ما فعله هذا السم الغريب بذراع شقيقك، لذا حقنته بمضاد حيوي وأرسلته الى المستشفى لإجراء المزيد من التحاليل المخبرية".
وتزداد الشكوك لتبتعد عن سديد ولتقترب من المجهول الذي يشير الى كائن غريب رهيب وظروف مرافقة لظهوره واختفائه لا تقل غرابة كانعدام الرؤية مع أن المكان مضاء.. وتستمر هذه الحالة، ويستمر معها من جديد الشك والوهم تارة، والتصديق تارة أخرى، الى أن يتضح الأمر وتظهر اللوحة المعلقة الى الجدار كسبب في كل ما يحدث، واللوحة عبارة عن مجموعة من الزهور والعقارب التي تتحرك بينها:
"الخادم: فهمت يا سيدي (يخرج الأب ثانية) يا إلهي! لا اعرف كيف حدث لي هذا! هل أتوهم مثلهم؟ (يصمت ويفكر) يخيل الي أنني لم أكن أتوهم، بل أن شيئا ما في الصالة هو الذي بعث في نفسي هذا الوهم. ترى ما هو؟ ما هو؟ تذكرت.. اللوحة (يلتفت الى اللوحة ويصرخ) لا (يغطي عينيه بيديه ثم يبعدهما ببطء ويدقق النظر) عجبا! ما هذه اللوحة الغريبة المفزعة؟! (يدقق النظر أكثر) ويلي! أي قدرة تمتلكها هذه العقارب العجيبة؟! (يصمت) لكن العقارب ليست كائنات غريبة كما يقول سيدي (يفاجأ) ما هذا؟! أنها تتحرك! (يدقق النظر) تتحرك بالفعل.. من يصدق أن عقارب في لوحة كهذه يمكن أن تتحرك بهذه الطريقة؟! (مندهشا) انظروا.. إنها تحاول الهجوم على الزهور (يدير ظهره للوحة)". وتمر المسرحية بعدة مواقف لتذليل الشك والالتباس من أن اللوحة هي مصدر كل الإشكاليات والمتاعب والخوف الذي أصاب الجميع، ويقع الخادم ضحية لدغ أخرى سببها عقارب اللوحة، ويحمل الى المشفى، ويستمر الجدل حول اللوحة بين الأب ومدير المنزل والخدم، ويتم طرح عدة تساؤلات: "من الذي حملها الى المنزل؟ من أي مرسم أو معرض جاءت؟ من هو الفنان الذي قام برسمها؟".. هذه الأسئلة بدأت تأخذ طريقها عبر مخيلة الأب، وبعد ذلك يتم الاتصال بصاحبة معرض بيع اللوحات السيدة وداد التي تؤكد أن اللوحة مشتراة من مخزنها وقام بشرائها مدير المنزل، وهذه اللوحة كانت في المستودع ولم تعرض للبيع: المرأة: لسبب واحد هو أنني لم اعرضها للبيع وآثرت الاحتفاظ بها في مستودع اللوحات.
الأب: لماذا؟ المرأة: لأنني أحسست بالقرف وانا انظر إليها لأنها تشوه الجمال بطريقة سحرية".
والقرف حالة مقززة ناتجة عن إحساس عميق لدى الفرد ورد فعل على ما هو غير طبيعي.. وطبيعيا فان إحساس وداد صاحبة المعرض بهذا التشوه نقيض الطبيعي يعزز حالة الرفض لديها في رفض هذه اللوحة، حيث تسأل الفنان الذي رسمها عن أسلوبها.. والأسلوب هنا هو حالة تركيبية ذات طابع سيكولوجي مريض مغاير للحالة الإنسانية العادية المتزنة حيث الزهور حالة سامية للجمال، والعقارب حال مقززة ومكروهة ومزعجة الى درجة القتل، والقتل حالة غير عادية، من حق السيدة وداد الإنسانة أن تدفع باللوحة الى المستودع وعدم عرضها للبيع:
"الأب: (مندهشا) بطريقة سحرية؟
المرأة: نعم. .. الأب: ألا يمكنك – رجاء- أن توضحي هذه العبارة؟
المرأة: أنا لا املك لها إيضاحا محددا.. كل ما في الأمر إنني أحسست بها هكذا.
الأب: وماذا أيضا؟
المرأة: أقنعت الفنان بعدم عرضها لاختلاف أسلوبها عن الأسلوب الذي رسم به بقية لوحاته.
الأب: أقلت لاختلاف أسلوبها؟".
بعد ذلك تبدأ عملية التأثير المتبادل بين الأب واللوحة والتي تكشف عن دواخله ونوازعه النرجسية (الأنا العليا) فتدفعها الى الخارج وتسيطر عليه فتحوله الى عقرب هائج يهاجم كل ما حوله، حتى أقرب الناس إليه ابنه سديد، الى أن يبدأ في التحول الى حالة اتزان جديدة غير مستقرة:
"الخادم: (الى سديد) سيدي.. خلصني أرجوك. سديد: (يحاول تخليص الخادم من أبيه) أبي (الأب يترك الخادم يفلت منه ليمسك بسديد) أبي! ماذا تفعل؟! إنك تهاجمني! (يصرخ به) أبي! الأب: (ينتبه لنفسه) سديد! ماذا حدث؟! ما سبب كل هذا؟!". وتستمر الأحداث الى أن يصل أخيرا الفنان الذي رسم اللوحة برفقة أحد اتباع الأب الأمنيين بالقوة، ويحاول الأب أن يعتذر بلباقة عما فعل به رجل الأمن، مؤكدا غباء هذا الجهاز الذي لا يفرق بين الفن وغيره.. ويدور حوار طويل بينهما عن الفن والطبيعة وعن ابتكار مصطلح الواقعية السحرية الذي تبناه الفنان لتوضيح الطريقة التي بواسطتها يعبر عن فهم الطبيعة، الى أن يأخذ الحوار طابع الصخب والانفعال في عدم فهم الآخر (الأب) للفنان، إذ يصر الأب على البعد السحري المتمثل بالشعوذة، ويصر الفنان على الحالة الإبداعية للفن من خلال عمل الألوان والفرشاة:
"الفنان: أنت تحاول اتهامي بالشعوذة.. أليس كذلك؟
الأب: كلا، لكنني فقط أريد التأكد من قدراتك السحرية.
الفنان: يبدو أنك أخطأت في طلبي يا سيدي، فانا لست الشخص الذي تريد.. أنا فنان، مجرد فنان يتواصل مع العالم والحياة من خلال فرشاته وألوانه ولا يعرف أي شيء عن الشعوذة".
ويصر الأب على أن الفنان مارس السحر فجعل عقارب اللوحة أداة تدمير موجهة له بغرض تدميره والقضاء عليه، وتبدأ عملية الابتزاز والتهديد من قبل الأب للفنان الذي يرفض كل أساليب الإغواء المادي، وحتى التهديد بالقتل:
"الأب: (متراجعا) معك حق.. لا أحد اليوم يقوم بعمل دون مقابل.. سأمنحك عشرة آلاف دينار عن كل عقرب تحوله الى فراشة. الفنان: عشرة آلاف فقط؟!
الأب: لا.. سأمنحك مكافأة إضافية.. بضعة آلاف أخرى.
الفنان: آلافك هذه يا سيدي لا تعادل تغيير عقرب واحد.
الأب: حسن.. أنا موافق. .. الفنان: موافق؟! على ماذا؟!
الأب: على دفع هذا المبلغ لقاء كل عقرب من عقاربك.
الفنان: حين تكتمل اللوحة وتعرض للناس فإنها تصبح ملك مرحلتها لا ملك الفنان الذي أنتجها.
الأب: هل هذا يعني أنك تريد رفع ثمنها؟
الفنان: الإبداع لا يعادله ثمن مهما كان باهظا".
إن القتل برأي الأب هنا هو قتل الإبداع، وهو مرهون بقتل الفنان وتحطيم الريشة وبعثرة الألوان، أي تحطيم اللوحة وما فيها من زهور، وحتى العقارب التي هي انعكاس داخلي لحالته المتسلطة الأنانية (الأنا العليا) وقتل العقارب يعني قتل الأب كانعكاس سيكولوجي للحالة التي هو عليها:
"الأب: (ينظر الى الرجل ذي المعطف الطويل والذي ما يزال واقفع يصغي عند الباب) أنت، تعال (يشير برأسه الى الفنان ويسحبه بقوة نحو الخارج) توقف (يتوقفان) لن اسمح لك بمقابلتي ثانية إلا والفرشاة بيدك.. هل فهمت؟
(الفنان يكتفي بابتسامة معبرة خفية تثير حنق الأب) خذه (يخرجان.. يتوجه الى اللوحة) لقد أرسلته الى الجحيم وسأجعلك تلحقين به الآن أيتها الفاجرة (يتقدم منها أكثر) وسأجعل من زهورك هذه وقودا لجحيم لم يحلم به ساحر يوما (يتقدم أكثر) وسأرمي رمادك في أكبر مزبلة في المدينة.. هل تعتقدين أنني خائف منك أو متردد في تنفيذ ما أريد؟ حسن.. حسن.. سترين أن سحرك كله غير قادر على الوقوف بوجهي، وان لا أحد يستطيع عصيان امري.. ما أريده هو الذي ينفذ، وما تريدينه أنت ليس سوى هراء.. هل تسمعين؟". وينفذ وعيده متحديا اللوحة وعقاربها بالقضاء عليها، ويهجم عليها في الوقت الذي نسمع فيه المؤثرات ذاتها التي حدثت في المشهد الأول، حيث نرى ونسمع الأصوات والمؤثرات الغرائبية نفسها، ونرى الإضاءة تخفت قليلاً ثم تطفأ لينير الضوء عدة مرات خلال تقدم الأب وتراجعه أمام اللوحة.. وما أن يظلم المسرح حتى نسمع صرخة الأب، وتفتح الإضاءة خافتة على المسرح ونرى الأب في وسط الخشبة ماسكا يده متألما وغير مصدق ما حدث، ويستمر وقوفه وتحديقه باللوحة لفترة وجيزة، وتختفي بقعة الإضاءة من عليه تدريجيا مع الموسيقى لتضاء اللوحة المعلقة على الجدار وتستمر الإضاءة مركزة عليها لمدة قصيرة قبل أن يسدل الستار، ليطرح سؤال
"هل مات السيد المستغل المتسلط (الأب)؟".
أجاد الكاتب استغلال مكان الحدث بطريقة فعالة، وساعدته عناصر السينوغرافيا الأخرى في عكس تفصيلات الحالة التي أبرزتها جماليات علاقاتها المختلفة على الرغم من تناقضاتها ضمن نسيج الحدث.. وكان الزمن ملازما للمكان ولا يمكن فصله عنه وهو الفترة الممتدة منذ بداية المشهد حتى موت الأب، وبعدها يصبح الزمن حرا وغير مقيد لان مقولة المسرحية هي "الانعتاق".
وأجاد الكاتب رسم شخوصه بشكل احترافي، ولعل شخصية الأب المتسلط وما حملته من أفكار ونوازع للشر والتسلط وحب السيطرة تعكس صورة واقعية للحدث الراهن لكثير من الشخصيات المخيفة على الصعيدين العام والخاص.
أما شخصية الفنان بقعة الضوء ومبعث الأمل في المسرحية والتي هي مشكلة في حياتنا الثقافية والفنية فطرح وجوده سؤالا هو: "كيف يمكن للفنان أن يحافظ على عطاءاته ومستواها والتزامه بأفكاره التي يريد لها أن تكون فاعلة وبناءة وسط انحدار الفن على أيدي البعض وتوجهه نحو مستويات تجارية كما هو حال التاجرة وداد في المسرحية؟".
وكانت بقية الشخصيات عادية ويمكن الاستغناء عن بعضها، وهذا لم يكن ليؤثر على استمرار الحدث وشفافية الفكرة كشخصية الابن نوار وشخصية أحد الخدم.
مجموعة من الأفكار المطروقة والعادية صاغها الكاتب وعبر عنها رمزيا من خلال فكرة أحادية الجانب هي الانعتاق بأسلوب اخرج هذه الأفكار من سطحيتها ودلالات معانيها ليعمل على صهرها في بوتقة واحدة بعد أن غاص بعمق الى مكوناتها الداخلية ليعكسها على شكل لوحة قالت الكثير مما نطمح أن نقوله، وان شابتها المباشرة أحيانا.
جاء التكثيف اللغوي في نص المسرحية ليكمل رسم اللوحة التي اتكأت المسرحية عليها، وهذا الجانب عزز مقولة المسرحية التي هربت من السردية الى الاختصار والتبسيط، إضافة الى أنها أسهمت في تقليل الأخطاء التقنية التي يقع فيها الكثيرون من كتاب المسرح عند صياغة الحوار الذي جاء في معظم تراكيبه لينا ومرنا وسهل التركيب والحفظ بالنسبة للممثل، حيث الدلالات السيميائية واضحة ومعبرة عن الحالات والإرهاصات لدى الشخصية بشكل جيد وواضح؟