قرصة من القرنفل . . رحلة روحية من جنة الأناضول إلى جحيم الحرب في أي مكان
6-كانون الأول-2022
عدنان حسين أحمد
يندرج الفيلم الروائي الجديد "قَرصة من القرنفل" للمخرج التركي بكير بلبل ضمن أفلام الطريق لكنّ ثيماته المتعددة لكنّ ثيماته المتعددة كالحزن، والصدمة، والتوتّر، والحرب، وتجاوز الحدود، والعودة إلى الوطن تمنحه نكهة مغايرة. فرغم تعدد الثيمات وكثرتها في هذا الفيلم الدرامي الذي يحفِّز مُتلقّيه على التأمل، والتفكير، وإِعمال الذهن إلاّ أنّ مُخرجه يناقش فلسفة الحياة والموت كما فعل في فيلمه الوثائقي الأول "مَطحنة البُرغل" 2016م حيث يُشبِّه محاولتنا العبثية اليائسة في الهروب من الموت بـ "حَبّة الحنطة الصغيرة التي تدور في مطحنة البُرغل" فلا مَنجاة من حجر الرحى التي تطحن القمح والزؤان على حدٍ سواء!
قد تكون الإجابة على أسئلة الموت عسيرة لكنها ليست مستحيلة خصوصًا إذا أصرّ المُخرج وكاتب القصة السينمائية على ذلك. فثيمة الموت هي من أقوى الثيمات التي تواجه الكائن البشري ويراها بأُم عينيه لكنه يتفاداها ويخشى من شبحها الذي يترآى له بين آونة وأخرى.
يذكِّرنا بكير بلبل في هذا الفيلم بأننا جميعًا مهاجرون في هذا العالم وسوف نغادره سواء كُنّا في أوطاننا الأصلية أو في بلدان اللجوء والشتات، وما من أحد يملك صكّ الإقامة الدائمية مهما اجترح من مآثر وبطولات فردية يكتبها المؤرخون بماء الذهب. فمن التراب جئنا وإليه نعود. وعلينا أن نقبل بهذه الحقيقة الدامغة التي جسّدها المخرج في مشهد دفن الزوجة ومواراتها التراب ضمن الحدود التركية حيث كُتِب على تابوتها " كُلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموتِ ثم إلينا تُرْجَعُون".
الوفاء بالوعد
يُفصح النسق السردي للقصة السينمائية بأنّ الأحداث تدور في قرية تقع في جنوب شرق الأناضول، وأنّ بطل هذه القصة هو موسى، الرجل المُسنّ الذي وعد زوجته قبل وفاتها بأنّ ينقل جثتها إلى بلدها ويواريها الثرى في مسقط رأسها، وأنه سينفّذ هذا الوعد الذي قطعه على نفسه مهما كلّف الأمر. تتضح القصة شيئًا فشيئًا حينما نعرف بأن موسى الذي يتكلّم اللغة العربية فقط هو لاجئ سوري في إحدى القرى التركية التي تُوفيت فيها زوجته. وسنعرف أيضًا أن حليمة، الطفلة البالغة من العمر 12 عامًا هي حفيدته الوحيدة لكن سلوكها وردود أفعالها تكشف بأنها لا تريد العودة إلى الوطن خاصة بعد أن أتقنت اللغة التركية لكنها ما تزال تحت تأثير صدمة الحرب السورية. وعلى الرغم من وجود شخصيات أخرى كثيرة في هذا الفيلم مثل سوّاق السيارات الصغيرة والكبيرة الذين ساهموا في نقل جثمان زوجته من القرية التي يسكن فيها إلى إحدى القرى الحدودية إلاّ أن الشخصيتين الرئيسيتين اللتين حضرتا بقوة منذ مستهل الفيلم حتى خاتمته هما الجد موسى "دمير پارسجان" وحفيدته حليمة "شام شريف زيدان"، أمّا الشخصيات الأخرى فقد ساهمت في تأثيث القصة السينمائية وآزرت الوقائع والأحداث، وعزّزت تصعيدها الدرامي خصوصًا وأنّ كل شخصية تترك بصْمتها على سياق القصة السينمائية التي تُحاذي الجانب الفلسفي ولا تنأى بنفسها عن سؤال الموت والقلق الإنساني الذي ينتابنا جميعًا مهما تذرّعنا بتجنّبه أو تفاديه أو غضّ الطرف عنه لمدة زمنية طالت أو قصرت.
رحلة محفوفة بالمخاطر
يضطر موسى أن ينقل جنازة زوجته بسيارة تاكسي أول الأمر لمسافة غير قصيرة ثم ينحرف السائق باتجاه آخر. وحينما يملّ من انتظار قدوم سيارة أخرى يضطر لسحب التابوت لمسافة معينة ثم تعاونه الحفيدة في حمله لمسافة أخرى حتى يصل إلى راعي غنم أخرس يصنع لهما الشاي ويقدّم لهما خبزًا من زوّادته الشخصية، ويدلّهما على جامع صغير على قارعة الطريق يبيتان فيه ليلة ثم يواصلان رحلتهما الشاقة والمحفوفة بالمخاطر. يساهم سائق تراكتور بنقلهما لمسافة معينة ثم يتخلى عنهما بعد أن يصدّع رأسيهما بثرثرة لا أول لها ولا آخر. عقلية الجد الإبداعية تُحفِّزه على تفكيك الحصان الخشبي الذي تلعب به الحفيدة حيث يربط العجلات البلاستيكية للحصان في نهاية التابوت الأمر الذي يسهِّل عملية جرّه بسهولة غير أنه لا يستطيع أن يسحب التابوت إلى ما لانهاية. وما إن يقطع مسافة طويلة حتى يجد نفسه على مقربة من كهف عميق يُوقد فيه النار ويضع حفيدته حليمة في جوف التابوت بعد أن يُخرج جثمان زوجته المكفّنة ويسندها إلى جدار الكهف لكنه ما إن يغطّ في نوم عميق حتى يحلم بأن التابوت قد رُفع على شجرة مجاورة بينما يمرّ من أمامه قطار يتجه إلى محطة نائية فيعاود جرّ التابوت الذي تخلّعت أخشابه ويصل إلى محل نجارة طالبًا ترميمه وإصلاح ما يمكن إصلاحه غير أن النجار ينصحه بوضع الجثة في كارتون بدلاً من التابوت الخشبي لكي يوافق سواق المركبات والشاحنات على نقل جثمان زوجته، كما نبّهه إلى المخالفة القانونية التي يرتكبها بسحب جثة إنسانة ميتة في شوارع المدينة بدلاً من دفنها في المقبرة.
امرأة حكيمة تنطق بالجواهر والدُرر
تجدر الإشارة إلى أن الحفيدة كانت ترسم جدها الحي، وجدتها المتوفية بأوضاع شتى وكأنها توثق لهذه الأوديسة المفجعة. وما إن ينتهي النجار من وضع اللمسات الأخيرة على حاوية الكارتون وأرضيتها الجبسية التي تتحمّل ثقل الجثة حتى يساعده على وضعها في الحوض الخلفي لسيارة الحِمل التي تقودها امرأة متوسطة العمر تُدعى حوّاء، ورغم زيّها القروي إلاّ أنّ ذهنيتها المتوقدة، وطريقة تفكيرها اللمّاحة توحيان بامرأة حكيمة تنطق بالجواهر والدُرر فهي تُخاطب حليمة بأنّ "الحياة قصيرة وخاطفة تنتهي قبل أن تعرفيها"، ثم تعزّز هذه الفكرة بمقولة المفكر الكوردي سعيد النورسي Nursi Said الذي يعتقد "أنّ الموت لا يعني تنفيذ حُكم الإعدام ولا الإبادة بالمفهوم المُتعارَف عليه، وإنما هو ببساطة شديدة يعني الذهاب إلى العالم الآخر". ورغم وضوح هذه الفكرة إلاّ أنها تبسِّطها أكثر حينما تقول لحليمة أيضًا:"كُلي تفاحة وحينما تُخرجين حبّاتها وتدفنينها في الأرض تعتقدين أنها تتعفّن هناك لكنك ستجدينها قد نمتْ إلى أشجار كبيرة". ثم تمضي في تعميق رؤيتها بالقول:"عندما نُدفَن أنا وأنتِ في الأرض ونرحل إلى العالم الآخر سوف ننمو إلى أشجار كبيرة". ثم تعقد مقارنة بين الأشجار الكبيرة والأعشاب الجافة لكن مع قدوم الربيع تدبُّ فيهما الحياة وتتفتّح من جديد بعد أن تُمزّق كفن الموت الجاف وتحيا في هيدراليز Hidirellez التي تعني من دون شك أشهر المهرجانات الموسمية ليس في تركيا فحسب وإنما في بعض بلدان الشرق الأوسط التي تحتفي بقدوم الربيع رقصًا وغناءً ومآدب شهية.
الحفيدة توثِّق تفاصيل الحكاية
توصلهما حواء إلى محطة وقود في مدينة ما على الطريق فتحاول الحفيدة أن تتملّص من جدها لأنها لا تريد العودة إلى صدمات الحروب لكنه ينادي عليها ويعيدها إلى حضرته من جديد ويستثمر الفرصة ليرشّ على جثمان زوجته قَرصة من القرنفل عندها ترسم حاوية الكرتون وكأنها توثّق تفاصيل الحكاية من الألف إلى الياء.
يتعاطف معها سائق شاحنة وينقلهما معه إلى مدينة حدودية فتتعالق قصة الفيلم مع آراء ضيف برنامج إذاعي حيث يصدمنا حينما يقول:"إنّ الحياة لا معنى لها ولا تستحق أن تُعاش ولكن يتوجب علينا أن نحياها". فالأجيال القادمة، من وجهة نظره، لا تتذكّرنا بعد ألف سنة ومع ذلك فنحن مضطرون لأن ننجب أطفالاً لكي نحفظ الجنس البشري، فالحياة في النهاية مجرد عبث لا جدوى منها. ثمة أسئلة كثيرة تطرحها المذيعة على ضيفها من بينها: "ماذا تريد من الحياة؟". فيردُّ عليها من فوره:" ليس لديّ جواب. ولو أنّ جنّي علاء الدين يخرج من الزجاجة الآن ويقول لي: أطلب واتمنّى! سأقول لا أريد شيئًا، عُد إلى قنينتك لأننا نستطيع أن نفعل شيئًا واحدًا فقط وهو أن نموت".
الأرض هي الأرض في كل مكان
يكتشف السائق في نقطة التفتيش أن الكرتون كان يحتوي على جثة امرأة فيدخل في مشادة مع الرجل العجوز ويوبّخه لأنه لم يقدِّر حق المعروف الذي عمله، فقد عطف عليه وعلى الصبية التي كانت معه. ثم يدخل الجد في نقاش طويل مع الضابط ويخبره بأنه قد تعهّد لزوجته أن ينقل جثمانها بعد وفاتها إلى مسقط رأسها لكن الضابط يحاججه بلغة المنطق بأنّ الأرض هي الأرض في كل مكان، وكان بإمكانه أن يدفنها في البلدة التي ماتت فيها، وأنّ الجثة لا تستحق كل هذا العناء. كما أنك جرجرتَ معك طفلة صغيرة وجعلتها تتجشم عناء الطريق الطويل بما ينطوي عليه من مصاعب. وأكثر من ذلك فإن موسى لا يمتلك أوراقًا رسمية لزوجته المتوفية، وليس لديه وسيلة نقل تيسّر له عملية نقل الجثمان إلى بلد آخر تشتعل فيه الحرب الأهلية بأبشع صورها الأمر الذي يدعو الضابط إلى إرسال الجثة إلى ثلاجة الموتى أولاً ثم يوعز بدفنها في مقبرة المدينة التي لا تبعد عن الحدود كثيرًا. نقرأ على التابوت آية قرآنية مفادها:"كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ثم إلينا تُرْجَعون". يدلّه أحدهم على أنّ الجبال التي تلوح في الأفق هي الحدود وينبهه في الوقت ذاته من حقل الألغام الذي يمكن أن يلتهمهُ هو وحفيدته إن لم يكن على درجة عالية من اليقظة والحذر. يتسلّق موسى السياج العالي رغم أسلاكه الشائكة ويجتازه بنجاح أمّا الحفيدة فتفشل في العبور وتظل في الجانب التركي الذي تفضّله على الجانب السوري الذي تشتعل فيه الحرب والمناوشات المستمرة.
بقي أن نقول بأنّ بكير بلبل من مواليد 1985م في منطقة بيشهير في قونية. تخرّج في قسم أنظمة الكمبيوتر في جامعة صقاريا في عام 2009م. حصل على درجة الماجستير في المسرح من جامعة خليج في إستانبول. بلغ رصيده من الأفلام الوثائقية والروائية 3 أفلام وهي "مطحنة البرغل"، "كلماتي الصغيرة" و "قَرصة من القرنفل" الذي اشترك في مهرجان طوكيو السينمائي الدولي لعام 2022م.