محمد السيد اسماعيل
في ديوان الشاعر العراقي علي جعفر العلاق "طائر يتعثر بالضوء" الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، نتوقف بداية أمام دلالة الطائر؛ لأنها، في تصوري، تتماهى مع الشاعر نفسه، وهو ما يبدو واضحاً في قوله: "وها أنذا/ بعد عشرين كارثة/ أتعثر بالضوء في حيرة/ ثم أرمي بعكازتي في الظلام". وهي سمة مغايرة لما درجت عليه القصيدة منذ العصر الرومانسي، حين كان الشاعر يشبه نفسه بالنبي ثم المخلص مع حركة شعر التفعيلة أو الرائد الرائي الشبيه بزرقاء اليمامة. لكن الطائر الذي يختاره العلَّاق هو معادل موضوعي له، لا يعرف الاستقرار، ولا المكوث في وطن/ العراق، بعد التحولات الفادحة التي مرَّت به. فهو في التحليل الأخير "وطن من عقوق جميل/ ومن صلوات". ولهذا كان الشاعر أو صديقه "يائساً من وطن/ لا مستقبل في انتظاره". والحق أن موضوعة الوطن من الموضوعات المتكررة في الديوان، وهو ينظر إلى مأساته التي حوَّلته إلى بلاد مضت؛ "وذي نهاياتها الكبرى/ فما لكما غير الحنين إلى اللاشيء"، وأنه وطن مجرَّح أعمى: "مرَّ بنا مُجرَّحاً وطنٌ أعمى/ يجرجره أبناؤه في المنافي". إنه إلى الآن يقدم الوطن بصورة مجرَّدة، لكنه في الشاهد الآتي يسعى إلى تسميته: "إن بي حاجة لكثير من اليأس/ حتى أصدق أن العراق بعيد/ وأن الرواية طفلة هذا الزمان". ومن الواضح أنه يقصد بالرواية هنا حكاية الوطن في هذا الزمان.
يمتاز هذا الديوان عما هو شائع، بما يستعيره من حياة رعوية؛ سواء على مستوى اللغة أو الثيمات الموضوعية: "صعدا ناصعين إلى آخر التل/ لم يجدا في انتظارهما/ غير ذكرى القطيع الذي رعياه/ وما كان من رفقة في زمان مضى". تبدو لي هذه السطور وكأنها إحياء لثيمة الأطلال. لكن الأطلال هنا هي أطلال الزمن البائد، فهو لا يتوقف أمام "القطيع" بل أمام "ذكراه"، وأمام ذكرى الرفقة "في زمان مضى". وترتبط ثيمة "الترحال" بالأطلال التي ترتبط – بدورها – بالحياة الرعوية، على نحو ما يظهر في قوله: "بقية السقف أنا/ بقية القبائل الرُحَّل/ بل بقية الأيدي على الأبواب". هذا الترحال الذي يتوجه صوب كل الجهات؛ "شرقت بل غربت/ حتى مطلع الوحشة/ حتى آخر المعنى/ وحتى التهم الحوتُ أناشيدي". ويحيلنا دال "الحوت" إلى قصة يونس عليه السلام حين ابتلعه الحوت ثم لفظه على الشاطئ. كما يدلنا على أن الترحال ليس براً فقط بل هو ترحال داخل البحر أيضاً.
ديوان الشاعر العلاق (الهيئة المصرية)
ويتجاوب كل ذلك مع استدعاء "الملك الضليل"، امرئ القيس، حين انتزعت إحدى القبائل ملك أبيه، فخرج لاستعادته ثم عاد خائباً. وهو ما يوحي به العلَّاق حين يقول: "أصغي إلى الملك الضليل/ يقرأ لي قصيدة لم أقلها ثم يطعمني حزن قطاة شهياً/ كان مرتكباً/ لا ناقة تتلظى/ لا شذى امرأة تضيء ملء شقوق الماء/ لا الشيح". ونلاحظ أن الفراغ والإحساس بالعدم هو الدلالة المهيمنة على هذا الشاهد وهي متكررة في مواضع أخرى كثيرة، حين يتحدث عن "أنقاض مملكة تطفو على قدح"، و"قبيلة من سراب"، و"طائر ثمل تلهو به الريح". كما يحيلنا عنوان قصيدة "نهر الغياب" إلى هذه الدلالة نفسها، حيث تبدو الأنثى فيها ذات "حضور مراوغ/ وغياب". ولا تبعد قصيدة "غموض" عن هذا المعنى أيضاً، فالمروي عنه "كان متعباً من هذا اليُتْم الذي يداهمه/ في ريعان كهولته". ولنا أن نتأمل ذلك التناقض بين "ريعان" التي تضاف للشباب، وبين إضافتها إلى الكهولة. واللافت أن هذا المروي عنه تنتهي حياته بالموت والكف– بالتالي– عن الكلام. كما تتحوَّل لغة الشاعر نفسه إلى "لغة خرساء/ لا تسع القتلى/ وليس لها إلا الحنين/ إلى اللاشيء".
هذا الإحساس بالعدم والتلاشي والفراغ، يقود إلى رسم صور تتسم بالكابوسية، ومن ذلك تصويره لـ "نساء يلتهمن أجسادهن جزءاً جزءاً"، بعد أن يتحدث عن الكرامة التي تذبل من وطأة الجوع. وهي صورة تتجاوز قول صلاح عبد الصبور: "في وطن تتعرى فيه المرأة كي تأكل/ لا يوجد مستقبل". وفي قصيدة "حينما انكسرت جرَّة الضوء"، تتحول تلك المرأة إلى شعوب "تلملم في الليل أشلاءها"، بعد أن يتحدث عن "مكتبات تنز دماً/ ولغات مفككة". وفي "راع يتخيل بحراً"، يصور ذلك البرد الذي يضرب بعصاه الغليظة، ثم "يهشم بها بقية من ضوء خافت/ لينشره على موقد في الرمق الأخير". وهذا كله– كما نلاحظ– يغلب عليه الطابع الكابوسي المفزع، وهو ما يجعل الحياة أشبه بالغابة التي يقطعها الشاعر مرغماً حين يقول في "عيون المها": "كلما أوغلتُ في الغابة/ قالت لي الغابة: لا تلتفت/ فربما في آخر الرحلة ما يشتهى/ فيالها من وحشة يالها". لكن هذا الأمل الواهن لا يتحقق، فالشاعر واقع دائماً في حالة برزخية بين الكابوس والأمل في التحقق، بين التحليق والركون إلى الأرض: "لا يشاركني قصيدتي غير نسر/ كم هتفت به لكي يطير/ فلا يقوى/ هتفت به لكي يحط فلا يرضى". من هنا أصبح "الليل" ظرفاً زمنياً دائماً على مدار الديوان في مقابل التعثر "بالضوء". يقول: "لا تقومي إلى النوم/ ما زال في الليل ما نشتهيه/ وما زال في القلب ما لم نقله"، أو "في الليل ينمو حنانُ يديكِ وينضح يتمي الذي لا ارتواء له". لقد أصبح الليل ملاذاً؛ لأنه يبعده عن الواقع النهاري المؤلم، هذا النهار الذي يصف شمسه بأنها "موحلة". ولنتأمل فداحة هذه الصورة "شمس موحلة/ تطل على مخيم أعزل/ تحت وابل من مطر/ لا مطر فيه". فنحن أمام مطر وهمي وربما يكون رصاصاً حين يتلقى الواقع وابلاً منه. ولا يبعد الخريف بدلالاته على الذبول والموت عمَّا سبق، لهذا ليس من العجيب أن يتخذه الشاعر صديقاً "يتعثر مبتعداً"، وأن يتكرر التعثر بالضوء الذي جاء في عنوان الديوان، ويتحول "العذاب" إلى حطَّاب يتمنى الشاعر أن يحتطبه: "مرة قلتُ للعذاب احتطبني/ اغمد الفأس في جذوري حتى لا ترى آهة تسيل".