قصة تعالج المنفى، وزواج القاصرات، والحُب الممنوع، والمِهن المحرّمة
7-أيار-2023
عدنان حسين أحمد
يقتحم المخرج الإيراني عبّاس أميني في فيلمه الوثائقي الجديد "حدود لا نهاية لها" موضوعات حسّاسة فلاغرابة في أن يفجِّر عددًا من الألغام بوجه السلطة الدينية، ومنظومة القيم الاجتماعية التي دأب عليها المجتمع الإيراني وخاصة في حاضنة البلوشستانيين الذين يتوزعون بين إيران وباكستان وأفغانستان ويتراوح عددهم بين 18 إلى 19 مليون نسمة بحسب إحصائية 2013م.
لا تتمحور القصة السينمائية على الثيمات الأربع الرئيسية وهي:"التربية والتعليم، وحقوق الإنسان، والحرب، واللجوء السياسي والإنساني" وإنما تمتد إلى زواج القاصرات، والحُب الممنوع، والمِهن المحرّمة مثل الأطباء المختصين بمعالجة أمراض النساء، ومزاولة العمل السياسي المُعارض، وظاهرة النفي الداخلي التي مازال معمولاً بها في إيران وغيرها من الثيمات الفرعية التي تؤثث النص البصري الذي يبلغ طوله 111 دقيقة لا تخلو من مَشاهد الشدّ والترقّب والانفعال.
لا يُعبِّر هذا الفيلم عن وجهة نظر المخرج عبّاس أميني لوحده فلقد اشترك معه في كتابة النص حسين فروخزاد وأضفى على القصة السينمائية أفكارًا ورؤىً جديدة ربما لم تدُر في خَلَد المخرج من قبل لكنه آمنَ بها وتلاقحَ معها في خاتمة المطاف حتى غدت جزءًا من نسيج النص ومادته الأوليّة.
لا يحتاج المُشاهِد إلى وقت طويل ليعرف أنّ المعلّم أحمد فائزي الذي جسّد دوره ببراعة وإتقان "پوريا رحيمي سام" هو معلّم منفي من العاصمة طهران إلى قرية صغيرة من قرى بلوشستان، هذه المنطقة الحدودية النائية التي لا يفصلها عن الأراضي الأفغانية سوى جدار عازل لا يمنع الأفغانيين من الهروب إلى إيران التي تُعدّ محطة إستراحة للانطلاق إلى تركيا ومنها إلى أوروبا وبقية بلدان العالم الغربي. أمّا سبب النفي فهو نشر دعوات ضد النظام في إيران لكن ما يثير الاستغراب حقًا هو أنّ المُعلّم أحمد فائزي قد نُفي إلى منطقة حدودية نائية لا تتوفر فيها أبسط الخدمات بينما سُجنت زوجته نيلوفر "مينو شريفي" لمدة سنتين في سجن إيڨين للتُهمة ذاتها! يمكن أن تتوسّع هذه الثيمة لتشمل الصراع بين ما هو ديني متشدّد وبين ما هو ليبرالي متحرّر لتغدو أكثر منطقية وعقلانية كما هو الحال في بلدان أخرى تنطوي على هذه الثنائيات الفكرية المُتضادّة التي تنشأ بين السلطة الدينية وجمهورها المُؤازر لخطابها الفكري من جهة وبين الطبقة المتوسطة التي تسعى للتحرر الاجتماعي والثقافي. وهو ما يتطابق تمامًا مع توجّهات المعلّم أحمد فائزي وزوجته المعلمة نيلوفر التي تبدو أكثر تشبثًا بالوطن وتفضّل العيش فيه على أن تغادر إلى بلدان اللجوء الغربية وتترك خلفها عددًا من الأصدقاء وزملاء المهنة الذين فضّلوا العيش في الوطن الأم بما له وعليه من إشكاليات فكرية وسياسية واجتماعية.
الشخصية الانتهازية
وعلى الرغم من إخلاص أحمد فائزي لمهنته كمعلّم يبذل قُصارى جهده في التربية والتعليم لكنه يبدو انتهازيًا يقتنص الفرص لكي يهرب من البلاد وينجو بجلده مُتتبعًا سياسة الخلاص الفردي كحلّ لمشكلته الشخصية من دون النظر إلى تداعيات هذه المشكلة على عائلته وأسرة زوجته التي ستترتب عليها اشتراطات قانونية قد تتفاقم إذا هربت ابنتهم إلى دولة أوروبية تناصب إيران العداء.
لم تعد فكرة النفي قائمة في العالم المتحضّر، بل أنها أصبحت جزءًا من الماضي البعيد لكنها ماتزال موجودة في إيران وبعض البلدان الآسيوية التي تعاقب منتسبيها من الموظفين والمنهمكين في العمل السياسي المعارض لنظام الحكم فلاغرابة أن نرى أحمد فائزي يهرول في إتجاهات شتّى كلّما جاءته مكالمة هاتفية من زوجته نيلوفر أو من والدها شريفي كي يستمع إلى مكالماتهما المتقطّعة لأنه خارج التغطية تقريبًا. ولكي يؤمِّن اتصالاً مريحًا عليه أن ينتقل إلى أقرب مدينة كي يسجّل حضوره بتوقيت زمني مُنتظم ويقتني بعض الأشياء الضرورية التي يحتاجها في المدرسة الابتدائية التي يدير مجمل صفوفها بنفسه. فتارة نراه يدرِّس طلابه مادة التاريخ التي تتمحور حول الفيلسوف أبي نصر الفارابي، وتارة أخرى يعلّمهم القراءة ويطلب من تلميذاته أن يقرأنَ بصوت عالٍ ومن دون خجل، وتارة ثالثة يأخذ الأولاد فقط إلى ملعب كرة القدم الترابي الخالي من كل شيء، ويطلب منهم أن يرتدوا أحذيتهم، ويلعبوا باحترام، وأن يتفادوا العنف تمامًا.
تتطور البنية الدرامية للقصة السينمائية حينما يصادف المعلم أحمد عائلة أفغانية هاربة بصحبة رجل مريض فيبحث عن طبيب لكي يعالجه. ومن حسن الحظ فقد وجد طبيبًا بين الناس الفارين من طالبان لكنه بلا حقيبة طبيّة وبلا أدوية. يدعوهم المعلم إلى بيت والد بالاج، كبير القرية، ويشرح له الظروف القاهرة التي حفّزته على استضافتهم بهدف إنقاذ حياة الرجل المريض الذي يقف على حافة الموت. يُشخِّص الطبيب الذي جسّد دوره بحرفية عالية "ناصر سجّاد حسيني" بأن الرجل المُسنّ مُصاب بنوبة مرضية مفاجئة. وبما أنّ المعلم أحمد سيذهب إلى المدينة لتسجيل حضوره في المركز الأمني والاتصال مع عائلة زوجته فقد كتب له الدكتور اسم الدواء وطلب منه أن يشتريه من أية صيدلية ويعود بأسرع وقت ممكن. كما تفيدنا أخبار المذياع بأن مقاتلي طالبان يتقدمون ولا تفصلهم عن العاصمة كابول سوى مسافة ساعة واحدة لا غير. يتناول الرجل المسنّ علاجه بالتقطير ويتحسن بعض الشيء لكن المعلم يلوم الابن لأنه جلب أباه في هذه الرحلة الشاقة غير أنّ الابن لا خيار له، فمع منْ يترك أباه الطاعن في السن؟ وهل يدع طالبان يقتلونه خاصة وأنّ الأسرة برمتها تنتمي مذهبيًا إلى الهزارة، وهو يمتلك الكثير من الأراضي التي استولوا عليها جنود طالبان وصادروها في وضح النهار!
يتضمن الفيلم بعض المواقف الصادمة فبينما كان المعلّم على مقربة من الضيوف الأفغان لمح البنت وهي تخنق (والدها) وحينما سألها في اليوم الثاني عن السبب الذي دفعها لخنقه كذّبت عليه وإدّعت بأنها كانت تمسح وجهه لكنه حينما واجهها بالحجج والأدلّة الدامغة اعترفت قائلة:"إنه ليس أبي. إنه زوجي!" لتضعنا، نحن المشاهدين، أمام مشكلة جديدة وثيمة فرعية من ثيمات الفيلم الكثيرة وهي "شراء النساء، وخاصة اليافعات منهنّ!" فهذا الرجل الأفغاني الهارب من طالبان ميسور الحال وقد اشترى أخت حسيبة الكبرى لكنها هربت ونجت بجلدها فأعطوه حسيبه بدلها وهي لم تجتز عامها السادس عشر بعد فوجدت نفسها مضطرة للقبول بهذه الزيجة غير المتكافئة وهي تتحين الفرص لتتخلص من هذه المحنة التي ألمّت بها مؤخرًا.
الحب الممنوع
لم يكن بالاج "حامد عليپور" بريئًا تمامًا من قضية العائلة الأفغانية الهاربة من طالبان فحينما وقع بصره على حسيبة "به آفريد غفاريان" التي تُصغره بعامين أحبها في الحال وقرّر أن يؤخِّر العائلة برمتها كي يهرب معها إلى تركيا ومنها إلى إحدى بلدان اللجوء الأوروبية وقد اكتشف المعلم بعض إرهاصات وملامح هذه العلاقة العاطفية وحذّره من خطورتها ومغبّة تداعياتها إذا افتضح أمرهما في هذه القرية الصغيرة. ومع ذلك يجازف بالاج بالهروب معها إلى جهة مجهولة لكنه سرعان ما يعود ليجد نفسه متورطًا في محنة كبيرة لا يعرف كيف يبرّرها أمام فظاظة الوالد، ورجعيته، ومحدودية تفكيره بحيث سجنه في الحال في غرفة مغلقة لأنه ارتكب ذنبًا لا يُغتفر في الأعراف والتقاليد القبلية الأمر الذي دفع المعلّم لتبليغ دورية الحدود عن وجود لاجئين غير قانونيين في قرية بابو بازار. تتكرر محاولة القتل ولكن هذه المرة على يد المعلم الذي حاول أن يخنق الرجل المريض الطاعن في السن لكنه تخلى عن هذه الفكرة بعد أن لمحتهُ حسيبة من دون أن يراها. تقتحم دورية الحدود القرية على عجل بينما يهرب المعلّم أحمد مع حسيبة وبالاج وتتوارى سيارتهم في جوف الليل المظلم. ثمة صديق قديم لأحمد فائزي يؤمِّن له اللقاء بزوجته نيلوفر التي تأتي من فورها لتُعيد من جديد قضية سجنها، فالبعض يعتقد أنّ اعترافاته كانت السبب في إيداعها خلف القضبان بينما ظل المعلم حُرًا، طليقًا حتى وإن كان منفيًا في قرية نائية تكاد تخلو من اشتراطات الحياة البسيطة.
تلتقي نيلوفر بحسيبة وبالاج وتتجاذب معهما أطراف أحاديث متنوّعة وتعرف عن كثب بأنّ حسيبة قد درست حتى الصف الحادي عشر بينما بلغ بالاج الصف العاشر فقط ويرومان الهروب إلى تركيا بواسطة شخص تركي يثقان به كثيرًا شرط أن ينتظرا بضعة أيام قبل أن يخوضا هذه المغامرة المجهولة العواقب. أمّا الزوجان أحمد ونيلوفر فهما يقفان على طرفيّ نقيض، فأحمد يريد الهروب من بلده مهما كانت النتائج لكن زوجته ترفض فكرة الهروب جملة وتفصيلا لأنّ عددًا من أصدقائها مازلوا مسجونين وليس بالأمر الهيّن أن تفكّر بالخلاص الفردي وتتخلى عن زملائها الذين يؤمنون بالخلاص الجماعي متجاوزين همومهم الذاتية الضيّقة. يكشف هذا الحوار العميق والحسّاس الذي تقول فيه نيلوفر كل شيء تقريبًا وكأنها تتهمه بالخيانة:"قبضوا علينا في نفس المكان، وبنفس الجريمة حيث زجّوني في السجن، ونفوكَ أنتَ . . لماذا؟ . . . لم أفكر أبدًا أنك خنتني ولكن حينما سألوني كيف يمارس أحمد مهنة التعليم بينما حُرمتِ أنتِ من المهنة؟ عندها لم يكن لديّ جواب أعطيه". يتذرّع أحمد بفكرة الحُب التي يتمسّك بها ويعترف بأنه لم يكن سياسيًا ذات يوم، ولن يكون كذلك في قابل الأيام، ولكنه يصرّ على التشبّث بحبه لها ليختصر القضية من الألف إلى الياء.
شُحنات الغضب
بالمقابل تتحاور حسيبة مع بالاج وتحثّه على العودة إلى دياره إن كان نادمًا على مغامرته بعد أن أثبت لنفسه أنه رجل وقد أدّى ما عليه أمام حسيبة من التزامات كعاشق في ريعان شبابه لكنه يؤكد لها ثانية بأنه بلوشي؛ والبلوشي إذا أعطى كلمة التزم بها حتى النهاية. ثمة أشياء كثيرة دفعت حسيبة للانخراط في البكاء منها استذكارات البيت وشجرة المشمش التي أحبّتها جدًا وكانت تجعل من أنويتها حِرزًا وتعاويذ تدفع عنها الشرور التي تتربّص بها. لعل من أجمل مَشاهد هذا الفيلم هو المَشهدالذي انخرطت فيه حسيبة في البكاء وركضت صوب المزرعة فلحقتها نيلوفر وهدّأت روعها وطلبت منها أن تضرب بكل ما أوتيت من قوة خيال مآتة منتصب في المزرعة وحينما فعلت ذلك بمشاركة نيلوفر وبالاج أفرغت شحنات غضبها ثم التقطت أنفاسها رويدًا رويدًا وعادت معهم لتنطلق من جديد في رحلة العبور إلى الضفة الأخرى من النهر وهي أكثر المَشاهد توترًا وخوفًا وانفعالاً في الفيلم برمته. ويكفي أن يركز المتلقي على شخصية المعلم أحمد ليعرف حجم الخوف الذي انتابه وهو يعبر النهر بينما تتبعه نيلوفر وهي تصارع الأمواج. فإذا ما توقف أحدهم فسيكون هدفًا سهلاً للرصاص المنهمر فوق رؤوس العابرين. وفي خضم هذه اللحظات المتوترة توجّه حسيبة سؤالها إلى المعلم أحمد قائلة:"هل خنقت الرجل المسنّ؟" فيرد عليها بالنفي القاطع ليترك المتلقين أمام احتمالات عديدة مفتوحة ويطلب من حسيبة وحبيبها أن يعبرا النهر بسرعة كي لا يكونا هدفًا لنيران شرطة الحدود التي تتقاطع مع نيران المهربين. لقد نجح المخرج في رسم هذه النهاية الصادمة حينما جعل المعلم أحمد يبحث عن نيلوفر كالمعتوه، وعندما رآها طلب منها أن تُبقي رأسها محنيًا إلى الأسفل لكنها نصحتهُ بأن يواصل رحلته إلى بلدان الهجرة واللجوء، ويبدو أنها قطعت شكّها باليقين وقرّرت أن تفي بوعودها الأخلاقية التي تنتصر فيها لزملائها القابعين في السجون ولا بأس في أن تدفع الثمن حتى لو كان باهضًا هذه المرة لأنها ستنام مرتاحة البال وتستفيق كل صباح بعقل يقظ متوقد لا يؤرقها تأنيب ضميرها الإنساني الحيّ وتعلّقها بجنبات الوطن حتى وإن كانت مليئة بالحسك والأشواك.
جدير ذكره أنّ المخرج عباس أميني من مواليد عبادان 1982م. انتقل إلى طهران سنة 2001م وبدأ العمل كمساعد مخرج في العديد من الأفلام الروائية. أنجز أميني خمسة أفلام روائية ووثائقية وهي على التوالي:"فالديراما" 2016 ، "هندي وهرمز" 2018، "المسلخ" 2020، "أنا هنا" 2020 و"حدود لا نهاية لها" 2023. وقد عُرف باهتمامه العميق بتداعيات الحرب العراقية- الإيرانية، ورفاهية الأطفال، ورصد منظومة القيم الثابتة والمتغيّرة في المجتمع الإيراني المعاصر.