مارين كنعان
يبدو أن المهتمين بالفلسفة وبفكر الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال فوكو (1926-1984) على موعد مع مفاجأة جميلة هي صدور كتاب جديد له بعنوان "الخطاب الفلسفي"، يعود تاريخ كتابته إلى صيف 1966، وضعه فوكو بعد أشهر قليلة من صدور كتابه "الكلمات والأشياء"، الذي أثار زوبعة من الجدالات، بعد أن أعاد فيه اكتشاف أنظمة العقل المعرفية ومراجعتها لأول مرة في تاريخ الفلسفة الحديثة خارج الأطر التقليدية، معلناً فيه موت الإنسان.
والكتاب غير المنشور عبارة عن نص مكتوب بعناية فائقة، أعده للنشر كل من أستاذي الفلسفة أورازيو إيريرا ودانيال لورنزيني، تحت إشراف فرانسوا إيوالد، صدر في باريس عن منشورات غاليمار وسوي ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في 12 مايو (أيار) الجاري ضمن سلسلة "الدراسات العليا".
يقع الكتاب في 310 صفحات تنقل لنا مسودة مؤلفة من 209 صفحات وضعها الفيلسوف بخط يده، تؤكد كلها عمق فكره وفرادته. فيها يتنكب فوكو مهمة تحديد ماهية الفلسفة وميزات خطابها بشكل منهجي واضح، ويرد فيها بطريقة غير مباشرة على الانتقادات الموجهة إليه بعد أن أعلن موت الإنسان، الذي لا يعني بحسبه نهاية الفلسفة، بل يشكل شرطاً لإمكان استئنافها. بغية دعم فكرته هذه، يناقش فوكو الأطروحات التي صاغها حول موضوع ماهية الفلسفة عدد من الفلاسفة القدماء والمعاصرين أمثال نيتشه وهايدغر وسارتر وألتوسير وغيرهم.
الميادين المتعددة
وميشال فوكو ارتبط اسمه بالحركات البنيوية وما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، وتجاوز تأثير كتاباته ميدان الفلسفة ليطال ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية والأدبية، ودرس وحلل تاريخ الجنون والجنسانية وعالج مواضيع الإجرام والعقوبات والسلوك في السجون والمشافي ومسألة المعرفة والسلطة والحقيقة والذاتية، ونحت مصطلح "أركيولوجية المعرفة" وغيره من المصطلحات، من خلال طرحه عديداً من الأسئلة الأساسية المرتبطة بخطاب الإنسان عن ذاته، لكن فوكو لم يقارب في كل مؤلفاته مسألة تحديد الفلسفة مباشرة وبطريقة بينة واضحة، كما في هذا الكتاب. ولئن كان الأمر كذلك، فإن القارئ يتساءل لماذا لم ينشر فوكو نصه المكتمل هذا والمستوفي جميع شروط النشر؟ لا يبدو الجواب على هذا السؤال متاحاً حتى الآن.
يقول فرانسوا إيوالد المشرف على نشر الكتاب، وقد كان في ما مضى أحد مساعدي فوكو، إن الفيلسوف كتب منذ الخمسينيات من القرن الماضي نصوصاً عديدة لم ينشرها، لكنه لم يتلفها أيضاً. ويضيف قائلاً إن شراح فوكو والمهتمين بفكره تقع عليهم مهمة تفسير عدم نشر الفيلسوف لهذه الكتابات التي عثر عليها أصحاب الحقوق في الأرشيف الخاص به، والمحفوظ في 110 صناديق في المكتبة الوطنية الفرنسية منذ عام 2012. ولعل وضوح المقاربة هي الدافع على عدم نشر الكتاب، وفق ما يقول المفكر والباحث والصحافي روجيه-بول دروا في مقالة مهمة تناولت الإصدار الجديد، نشرها في جريدة "لوموند" الفرنسية. ويبدو أن فوكو قد فضل بحسب روجيه-بول دروا الإبقاء على بعض اللبس أو الإبهام في ما يتعلق بتعريفه للفلسفة. فما هي الفلسفة بحسب فوكو وفق هذا النص الذي نشر بعد أكثر من نصف قرن على كتابته، الذي يشكل من دون أدنى شك إضافة مهمة لفهم فكر هذا الفيلسوف والمثقف الغزير الإنتاج؟
في التاسعة والثلاثين من عمره
في صيف سنة 1966 قرر فوكو، الذي كان قد بلغ من العمر آنذاك 39 عاماً تمضية عطلة الصيف في منزل العائلة الواقع في وسط غرب فرنسا، للكتابة عن الفلسفة بحسب الملحق الذي وضعه الأكاديميان أورازيو إيريرا ودانيال لورنزيني حول الكتاب. فيه حرص المحرران على تحديد العناصر الضرورية التي تمكن القارئ من فهم السياق الفكري الذي يتموضع فيه هذا النص بالتعالق مع مؤلفات ميشيل فوكو الأخرى وتطور مساره الفكري. وقد بين الباحثان أن التفكير في تعريف الفلسفة شغل آنذاك بال فوكو، بخاصة أنه كان قد طلب من جامعة كليرمون-فران حيث كان يدرس، مقررات تتناول علم النفس، فصله موقتاً بغية التدريس ولأول مرة في حياته كأستاذ كرسي مادة الفلسفة في جامعة تونس.
ويقول الباحثان، إن فوكو كان قد ترك وصية تمنع نشر هذا النص وغيره من النصوص بعد وفاته. غير أنه، وبالطريقة نفسها التي لم تحرق فيها روايات فرانز كافكا غير المنشورة على رغم رغبات هذا الأخير، فإن نصوص فوكو، ولحسن الحظ، بدأت بالظهور تباعاً في المكتبات تحت إشراف فرانسوا إيوالد الذي يعمل منذ 30 سنة بالتعاون مع دانيال دفير، رفيق الفيلسوف الذي توفي، أخيراً، في فبراير (شباط )2023، وهنري- بول فروشو ابن شقيقة فوكو، الذي كرس كامل وقته لنشر نتاج خاله والإشراف على "مركز دراسات ميشال فوكو" الذي تأسس سنة 1976.
أثارت هذه النصوص منذ ظهورها مجموعة من السجالات والجدالات الفكرية التي ما زالت أصداؤها تتردد حتى اليوم.
تألفت المنشورات التي صدرت بعد وفاة فوكو من مجموعة من النصوص والمقالات المختلفة، كالكتاب الذي صدر تحت عنوان "ميشال فوكو، أقوال وكتابات" تبعه كتاب جمع نصوص الدروس التي ألقاها الفيلسوف في الكوليج دو فرانس بين الأعوام 1970-1983، علماً أن القيمين على هذا الإرث الفكري الضخم لم ينتهوا بعد من اكتشاف نصوص خطها قلم فوكو، لكنها بقيت طي أرشيفه الخاص. ويؤكد إيوالد أن ثمة مجلدات ثلاثة ما زالت قيد التحضير تضم دراسات تتناول فكر نيتشه ومجموع الدروس التي ألقاها الفيلسوف في جامعة ساو باولو البرازيلية وفي جامعة تونس.
الخطاب الفلسفي
وفي عودة إلى الكتاب الصادر حديثاً، الذي جعل منه أورازيو إيريرا موضوع مقرر مادة الفلسفة التي يدرسها في جامعة باريس حتى قبل صدوره، يستكشف فوكو معنى الخطاب الفلسفي في العصر الحديث والوظيفة التي يؤديها في مواجهة الأحداث الجارية. فيه يعيد الفيلسوف طرح مسألة التعريف بالفلسفة من خلال معالجته للأسئلة البديهية الآتية: ما الفلسفة، وما دورها اليوم في الثقافة الغربية، ما المحرك الأساسي لتاريخها، وهل ما زال بإمكاننا اليوم التفكر فلسفياً، وكيف يكون ذلك ووفق أي منهج؟
هذه الإشكاليات الهائلة يقاربها فوكو في هذا الكتاب من خلال سبر غور النصوص الفلسفية وتفكيكها. وهو، على عكس الذين حاولوا في الستينيات من القرن الماضي كشف النقاب عن جوهر الفلسفة أو إعلان موتها، سعى إلى مقاربة موضوع الفلسفة بوصفها خطاباً متميزاً عن سائر الخطابات الفكرية الأخرى، أكانت هذه الخطابات علمية أم خيالية أم دينية. ولعله يقترح في هذا الكتاب نظرة جديدة إلى الفلسفة وتاريخها، تأخذ القارئ إلى معارج مختلفة عن تلك التي سلكها قبله كبار الفلاسفة في فهمهم تاريخ هذه المغامرة الفكرية منذ ظهورها في بلاد اليونان، الذي جعل منها عبارة عن تأويل لفكر الفلاسفة.
هذا النمط التاريخي السائد لفهم الخطاب الفلسفي أصبح في هذا الكتاب موضوعاً للنقد، ذلك أنه منذ ظهور فريديريك نيتشه (1844-1900) بين فوكو أن تحديد الفلسفة عرف تحولاً مفصلياً، إذ أصبح عبارة عن مشروع انحصرت وظيفته في تشخيص الحاضر والاعتناء باستجواب معارف العصر. وقد احتلت كتابات نيتشه مكانة خاصة في فكر فيلسوف "الكلمات والأشياء"، الذي رأى أن الفلسفة في نهاية القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 انعطفت مع نيتشه عن مسارها التقليدي، بحيث أصبحت وظيفتها "التعرف من خلال بعض العلامات الحساسة على ما يحدث في اللحظة". ولعله يعود اليوم إلى الفلسفة قراءة الراهن وقوله انطلاقاً من "أرشيف" الحضارة الكامل. ويرى فوكو أن هذا التحول في تحديد وظيفة الفلسفة بدأ فعلياً مع نيتشه الذي أحدث فكره قطيعة إبيستيمية مع تاريخ الفلسفة. "إذ كسر وفكك قطعة تلو أخرى المحرك القوي الذي عزل الخطاب الفلسفي عن سائر الخطابات الفكرية"، منذ أن انتقد الأصول الثابتة واستبدلها بفكرة البدايات المتغيرة التي لا يمكن حصرها.
ولذلك كان البحث الأركيولوجي هو البحث التاريخي الذي أطلق عليه نيتشه اسم الحس التاريخي، وهو تاريخ مغاير لتاريخ المؤرخين والفلاسفة ولكل أشكال التاريخ الكلي. ولئن كانت أركيولوجية المعرفة هي المنهج الأساسي المعتمد لهذا المشروع، فإنها تجد في كتاب "الخطاب الفلسفي" مكانة مهمة توضح المسار الذي سلكه فوكو في تفكيكه للخطاب الفلسفي التقليدي الذي سمح حتماً بظهور الإنسان النقدي المتفكر في الما قبل والأصلي والتناهي. أي في المفاهيم التي عالجها الفيلسوف في كتابه "الكلمات والأشياء"، حيث تكمن بحسب فوكو، إمكانية التفلسف، محيلاً في ما يشبه المفارقة إلى فلسفة نيتشه.
دعوة إلى التفكير في الذات
وقد توقف فوكو في هذا الكتاب كما في سائر مؤلفاته، أمام أسئلة أساسية دعا من خلالها الإنسان إلى التفكير في ذاته وفي معارفه، انطلاقاً من تعقبه لمغامرة العقل الغربي منذ نشأته حتى أواخر القرن الـ19.
لا شك في أن ليس من السهل مقاربة هذا النص الفلسفي بسبب توسع خطاب فوكو وتشابكه، وتعدد القراءات التي أجراها على أعمالهـ التي يجد بعضها مرتكزاته في الفلسفة الكانطية. غير أن قراءة هذا الكتاب تبقى متعة حقيقية، حتى لو لم تنجح أطروحات الفيلسوف وإجاباته على كل الأسئلة المطروحة في أن تكون دوماً مقنعة، لكنها بالتأكيد إجابات تتسم بالذكاء الحاد والعمق المتسربل بأسلوب كتابي لا يضاهى.
يقدم إذا كتاب "الخطاب الفلسفي" للدارسين والمتبحرين في فكر ميشال فوكو بعض الحلقات المفقودة التي تمكنهم من رصد المسار الذي سلكه الفيلسوف في قراءته لتاريخ الفلسفة وخطابها، وربط ما ورد في كتاب "الكلمات والأشياء" بما ورد في كتاب "أركيولوجية المعرفة" الذي صدر سنة 1969، علماً أنه كتاب مستقل بذاته يبحث على طريقته في خطابات الفلاسفة ونهجهم الفكري، لا في نظم الفلسفة ومدارسها وتياراتها وجدالاتها التي لا تنضب.
وقد بدأت ردود الفعل على هذا الكتاب تلوح تباعاً. فها هي المترجمة والفيلسوفة جوديث ريفيل تعترف صراحة بـ"دهشتها الكاملة" أمام ثراء الأفكار التي يتضمنها. وكذلك فعل الفيلسوف وأستاذ الفلسفة كريستيان روبي عندما شرح بالتفصيل الإضافات التي يقدمها هذا الكتاب في فهم الفلسفة، التي يمكن بحسبه اختصارها بالسؤال المركزي الذي لم يعد ينحصر بالنسبة لفوكو في إمكان أن تكون الفلسفة الأساس النهائي للمعرفة، بعد أن بين أن الحقيقة قد فقدت بعدها الأصلي.