عامر بدر حسون
قرات احصائية قديمة تقول ان كل كلمة في كتاب هتلر "كفاحي" قتلت مئة من البشر تقريبا.
لقد جمعوا كلمات الكتاب وقسموها على عدد من قتلهم او تسبب بقتلهم، فخرجوا بتلك الاحصائية.
ومن المؤسف ان هذا الكتاب ما زال يحتل مكانة مرموقة في المكتبة العربية من خلال طبعاته المتواصلة!
واعتاد الشاعر محمد مهدي الجواهري ان يقول في كثير من مقابلاته ان كتاب "كفاحي" هو احد كتبه المفضلة وكذا فعل الكثير من مجايليه.
ولا غرابة بعد هذا ان تكون اغلب قصائدنا وبضمنها قصائد الجواهري تنز دما في مكتباتنا فتصبغ افكارنا بلون دم الانتقام والفخر والعدوانية ضد الاخر.
ولا غرابة، مرة اخرى، في هذا فالفكر القومي الذي ساد عندنا هو ابن بار للفكر النازي، وتأسست في العراق في الثلاثينات والاربعينات الكثير من الاحزاب النازية وصدرت الكثير من الصحف الممولة من المانيا في بغداد، وهي تؤكد ان هتلر يحب العرب والمسلمين، بل وانه يؤجل اعلان اسلامه لحين انتصاره في الحرب!
وسالت الجواهري في اخر مقابلة له ان كان يعتبر نفسه وشعره وكلماته مسؤولة عن الدم الذي غطى افق العراق، فبهت من السؤال واستنكره، الا انه استرسل في حديثه بين التبرير وتحميل الاخر المسؤولية، ثم طلب مني، في النهاية، ان امسح الجواب والسؤال، وقال انه في شبابه لم يستطع مقاومة الموجة فكيف به الان وقد "بلغ من العمر عتيا"؟
لكنه في الواقع عرف ان مجرد طرح السؤال يمثل تشكيكا بالكلمة العربية وما كتب بها على مدى اكثر من نصف قرن.
والصبايا يعشن ويمتن ويفرحن ويبكين من كلمة.. فكل عالم الصبايا منسوج من اخيلة متطرفة في جمالها وحساسيتها، لكن هذا العالم ينهار بكلمة جارحة تخرج من فم الاب او الزوج او الاخ حتى وان كانت الكلمة غير مقصودة.
لكن الصبية تعيش سعادة لا مثيل لها لبقية يومها ان سمعت كلمة حلوة ممن حولها، كلمة تشيد ولو بحسن اختيارها لألوان ثيابها.
وياما انتحرت صبايا وياما ضاعت صبايا وياما عشن فوق الغيوم بسعادة جراء كلمة قيلت لهن بشكل عابر او مقصود.
وانت، ومهما كان عمرك، لا تخرج بتصرفاتك عما تتصرف به الصبايا اذ تتحكم الكلمات التي تسمعها ببقية نهارك واحيانا ببقية عمرك.
وفي ذاكرة كل منا كلمة قيلت في طفولتنا او شبابنا فاتعستنا او اسعدتنا لبقية العمر، والفارق هائل بين من كانت طفولته غنية بكلمات الدعم والتشجيع والاعجاب وبين من كانت طفولته غارقة في الكلمات الجارحة والمحبطة والنابية.
وكتبت مرة مسلسلا تلفزيونيا للأطفال عن تمرد الحروف واعتصامها، في مدينة الحروف، احتجاجا على سوء استخدامها من البشر.. واحد الامثلة كان اعتراض حرف الحاء وحرف الباء بشدة على تغلغل حرف الراء بينهما، فيسبب بوقوفه بينهما الموت والخراب بعد ان كانت الدنيا قبله حب في حب.. وهكذا تفعل بقية الحروف.
ولا شيء يكشفك مثل الكلمات التي تستخدمها.
وانت، بكل اسف لا تعيش باستخدام قاموس واحد تختار منه كلماتك.. فثمة قاموس تستخدمه عندما تقف امام مديرك، او امام شرطي المرور الذي اوقفك لسبب ما، او وانت تقف امام موظف لإنجاز معاملة.
وهو قاموس يصيبك بالإحباط والغضب الدفين والتوتر، وما ان تدخل البيت حتى تفتح قاموسا اخر وتختار منه الكلمات الخشنة التي تتحدث بها الى اطفالك او الى زوجتك واختك وامك.. ولو استبدلت قاموس البيت بقاموسك مع المدير وشرطي المرور لعرفت معنى "السعادة العائلية"!.
والمفروض ان الكاتب اكثر الناس تدقيقا في كلماته وفي اختيارها ومعرفة تاثيرها، لكن هذا لا تعكسه الكتابة الشائعة عندنا..
وما زال افضل كتابنا هم اكثرهم ذبحا وانتقاما وتنكيلا بالآخر.. فنمجدهم حتى ونحن نغني مع الست ام كلثوم "كلمة ونظرة عين"!