عامر بدر حسون

حين اكتب في كوكل كلمة (يو اس اي) يقدم لي هذا المحرك الجبار اكثر من 23 مليار موضوع في العنوان الذي طلبته. وهو لا ينسى ان يخبرني ان عملية البحث والعثور على مليارات الموضوعات استغرق نصف ثانية او اقل! وهذا شيء لا يشبه السحر.. لأنه اقوى واشد ابهارا وفائدة من السحر. وسواء كان الموضوع الذي تفتش عنه يتعلق بأميركا او بطبخة البرياني فـ "كوكل" كارشيف يساعد الباحث والقاريء، لا يمنعه موقف عقائدي من تقديم اميركا لك بكل وجوهها الحلوة والبشعة. هو يقدم لك المعلومة ويترك لك حرية تكوين واختيار الراي الذي تريده. وهو لا يستنكف ان يشتغل في طبخ "البرياني" فيبحث عن النتائج بنفس الهمة والاخلاص. وفي منتصف السبعينات اردت كتابة ريبوتاج لجريدة الفكر الجديد، عن سباق الخيل "الريسز"، وعن ماسي العائلات بسبب ادمان رجالها على المقامرة فيه.
وكان علي ان اذهب للأرشيف كي ارى اوليات الموضوع، فلم اجد في ارشيف الجريدة شيئا.. وذهبت لارشيف طريق الشعب، وهي اختنا الكبيرة، فلم اجد في ارشيفها شيئا عن الرايسز كذلك.
وسبب هذا الجفاف الارشيفي ان احدا، من صحف الحكومة او "المعارضة" لم يكتب شيئا عن الريسز، لانه مسجل من منجزات حكومة البعث.
وارشيف اكبر الصحف.. كان كحال صحيفتنا: ارشيف في غاية الفقر خصوصا في تنوع وجهات النظر. ولتغطية الموضوع من كل جوانبه كان علي ان اخذ راي الكاتب الراحل هادي العلوي في الرايسز من الناحية التاريخية، وفاجأني رايه عندما اعتبر سباق الخيل من الملامح البارزة للحياة العربية في الجاهلية والاسلام وتحدث عن السباقات التي سجلتها كتب التاريخ.. وذهبت الى الدكتور كاظم حبيب كمختص بالاقتصاد وقيادي في الحزب الشيوعي، وكان يشغل منصب رئيس المجلس الزراعي الاعلى، وسالته عن التبعات الاقتصادية للريسز وتأثيره على عائلات المراهنين، فوجدت انه ركز في حديثه على فوائد الريسز الاقتصادية، ودوره المهم في امتصاص التضخم.. وذكر تجارب دول "تقدمية" عديدة سمحت به كالجزائر وغيرها. ولأنني كنت على "قد حالي" فقد كنت عاجزا عن مناقشة الرجلين الخبيرين في مجالهما، ولم يبق امامي سوى الذهاب للمنصور حيث الخيل وعشاقها.. والعشاق ضحايا دائما، سواء للخيول او لغيرها من المعشوقات. وهناك وجدت بغيتي.. فغالبية مدمني المراهنة كانوا يسالون بياس: متى ستغلق الحكومة الريسز كي نتخلص من ادمانه؟! واخرج عامل فرن من جيبه جريدة طريق الشعب وقال:
لم اعد اذهب الى بيتي وصرت انام في الفرن لان الريسز يأخذ كل اجوري.. الا يستطيع الحزب الشيوعي المطالبة بإغلاق الريسز؟ وكان اطرف من التقيتهم شايب في غاية اللطف والتعايش مع يأسه واستسلامه لإدمانه للريسز.. إذ قال لي: كل هؤلاء اغبياء.. ونصفهم سيعود مشيا الى بيته لانهم يخسرون كل شيء اما انا (ومد يده الى جيبه واخرج قطعا نقدية) فلا العب او اتحرش بأجرة طريق العودة للبيت! ومن عشرات القصص الماساوية عن ادمان المقامرة كتبت موضوعي.. وعندما تم نشره، ورغم نشري لراي العلوي وحبيب دون نقاش، كرمتنا حكومة البعث بتوجيه انذار للجريدة للتوقف عن نشر "موضوعات غير ثقافية" لا تنسجم مع امتياز وصفة الجريدة. وبدأت بخدمة كوكل واعتنائه بنشر كافة الآراء في القضية الواحدة.. وعليّ ان انهي بما تربينا عليه (كثقافة ومثقفين) من انواع الارشيف والمراجع المتوفرة يومها.. فاجد انها كلها (عند الحكومة وعند المعارضة) كانت تمثل رايا واحدا في اية قضية هو رأي "الاشتراكية". ومرة اخرى لا اقول ان الاشتراكية جيدة او سيئة، بل اقول ان مرجعية مجتمعنا وثقافتنا كانت الفكرة الواحدة المقدسة التي لا يجوز المساس بها.. وهذا منتهى الفقر!