كيف نظر ماركس لـ«ماكبث» في نص حول ضرورة الشر وإنسانيته؟
20-أيلول-2023
إبراهيم العريس
هناك أعمال في تاريخ الإبداع لا تحتاج إلى مناسبة محددة كي يستعاد ذكرها. ومع ذلك لا يعدم الأمر مناسبة تفرض تلك الاستعادة فرضاً. ومن تلك الأعمال مسرحية "ماكبث" لشكسبير التي يستحيل على من يقيض له أن يستذكر تلك الدراسة المهمة إنما نصف– المجهولة لكارل ماركس والمتحدثة عن ضرورة الشر في الحياة الإنسانية، من دون أن تكون "ماكبث" أول ما يخطر في باله من أعمال إبداعية تكاد تفسر تماماً ما أراد ماركس أن يقوله. فصاحب "رأس المال" الذي يدفن وينعى مرات ومرات منذ عقود، يقول في تلك الدراسة التي كان "الماركسيون الأقحاح" أنفسهم أول من حجبها بستار سميك، إن "الشر لازم في حياة الإنسان لزوم الإنسان نفسه". وهو بعد أن يرسم صورة بالغة الدقة والطرافة لعالم لا شر فيه وكيف أن ذلك العالم سيكون مملاً وخالياً من فرص العمل التي ينتج عن وجود الشر فيه عادة، من بناء السجون وصناعة الإقفال إلى عمل المحامين والقضاة ورجال الشرطة تدرجاً حتى الوصول إلى الأعمال الإبداعية التي لن تكون مهمة لولا وجود الشر في العالم، يواصل حديثه هنا برهافة وذكاء تاركاً قارئه يتساءل: ترى لو تأملنا العدد الأكبر من الأعمال الإبداعية في تاريخ الفن وتساءلنا عن العمل الذي يمكن أن يكون من بينها جميعاً، الأكثر امتلاء بالشر، وربما أيضاً الأكثر "احتفالاً" به حتى من دون أن يكون محبذاً له، أفلن نجدنا حائرين أمام تلك المسرحية الشكسبيرية الرائعة التي لا تزال حتى اليوم بعد قرون طويلة مرت على تقديمها للمرة الأولى في حياة صاحبها، شاعر الإنجليز الأكبر، وتعتبر واحدة من أكثر المسرحيات حداثة ومعاصرة وتعبيراً، إلى درجة أن فنانين كثراً من بعد شكسبير اقتبسوها لتتماشى مع أزمانهم فاجتازت الامتحان بنجاح مذهل. مسرحية "ماكبث" تحتل هذه المكانة، بل أكثر من ذلك تحتل مكانة العمل الفني الأكثر تماشياً مع أطروحة ماركس هذه؟
بين القلق والشر المطلق
صحيح أن "هاملت" بالنسبة إلى كثيرين هي المسرحية الأهم التي كتبها ويليام شكسبير (1564- 1616). ومع هذا يرى كثيرون أيضاً أن "ماكبث" أكثر ارتباطاً بالإنسان ودلالة على نوازعه بالتالي على "حاجته" إلى الشر، بمعنى أن "ماكبث" هي المسرحية الإنسانية الأولى في تاريخ الكتابة المسرحية الحديثة. أي المسرحية الأولى والأكبر التي جعلت من الشر موضوعاً لها. الشر كمسؤولية بشرية لا كمسؤولية آتية إلى الإنسان من خارجه. ولئن كان من الصعب طبعاً، في مثل هذه العجالة، المقارنة بين شخصيتي هاملت وماكبث، يمكننا، باختصار، القول إنه بينما تدور الصراعات بين الأهواء والنوازع في "هاملت" داخل روح الأمير الدنماركي الشاب، ما يخلق لديه ذلك التوتر والتردد اللذين صارا علامة أساسية من علامات القلق البشري المعبر عنه في الفن، فإن ما يحرك ماكبث ليس تردده أو أي صراعات "وجودية" داخلية، ما يحركه هو نزعة الشر التي إذ تدفع الإنسان إلى القتل وإلى التعطش إلى الدم، تقتله في الوقت نفسه. لأن ما نشاهده أمامنا على المسرح في "ماكبث"، إنما هو هبوط ماكبث نحو جحيم الجريمة وفي حضيض الجريمة. غير أن هذا البعد، يبقى محملاً في الخلفية الفلسفية للعمل، أي إنه لا يلامس المجرى الحقيقي للأحداث التي ربما كان السينمائي أورسون ويلز، واحداً من قلة أخذتها من شكسبير كما ينبغي لها أن تكون.
الحكاية المعهودة
ففي جوهر الأمر لدينا، في كل الأحوال، الحكاية المعهودة نفسها عن القائدين العسكريين ماكبث وبانكو، عائدين من المعركة منتصرين إلى الوطن الاسكتلندي، حيث يلتقيان في طريقهما بالساحرات الثلاث، اللاتي يتنبآن لهما بالمجد والسلطة وإن على عرش من الدماء. وتقول النبوءة كما نعرف إن ماكبث سيعتلي بنفسه عما قريب عرش اسكتلندا، غير أن ورثة بانكو هم الذين سيتولون هذا العرش من بعده، لا ورثته هو. ولاحقاً، حين يكون دانكان، الملك الحالي، في زيارة لماكبث في قلعة هذا الأخير، يندفع ماكبث بتحريض من زوجته، وبعد تردد طويل منه يتناقض مع طموحاته البينة، إلى ارتكاب تلك الجريمة الدامية التي تحقق الجزء الأول من النبوءة: إنه يقتل الملك في جريمة نكراء تسجل، على أي حال، أول هبوط له إلى جحيمه.
غافل عن النبوءة
مهما يكن، فإن ماكبث لن يبدو هنا غافلاً عن أن تحقق النبوءة الأولى سيعني- بالضرورة- تحقق ما يليها من نبوءات. ومن هنا، حتى يحول ماكبث دون التخلص منه ومن ورثته، وتسلم أولاد بانكو للعرش، يقدم على مذبحة كان يتوخى منها أن تخلصه من هؤلاء. إنه طبعاً من قتل بانكو، لكن فليانس، ابن هذا الأخير يتمكن من الإفلات بجلده ويهرب. وهنا يستدعي ماكبث الساحرات الثلاث كي يقلن له ما الذي سيحدث بعد ذلك... وكيف قد يتمكن ابن بانكو من الحلول على العرش مكانه، الآن وقد أتى مقتل بانكو، ليلغي الفكرة من أساسها. عن هذا السؤال يأتي جواب الساحرات، كما كان في المرة الأولى: إن أي شخص ولد من بطن امرأة لن يجرؤ على إيذاء ماكبث...
من التاريخ إلى الإنسان
لسنا في حاجة هنا إلى التوسع في رواية ما يحدث في فصول هذه المسرحية التي كتبها شكسبير في عام 1606، بعد خمس سنوات من كتابته "هاملت"، مستنداً فيها إلى بعض التواريخ الاسكتلندية، ولكن لا بد من التذكير بأن في النبوءة أيضاً أن بانكو يلد الملوك من دون أن يكون هو ملكاً، وهذه النبوءة يجب أن تتحقق بدورها، ولكن حتى هنا تبدو "ماكبث" أشبه بتلك التراجيديات الإغريقية المليئة بالنبوءات وبمشيئة الأقدار. غير أن الجديد هنا، الإنساني المفتتح لعصر الفنون المرتبطة بالنوازع البشرية النابعة عن الإرادة البشرية، هو وصول النبوءة إلى الليدي ماكبث. فلئن كان ماكبث نفسه ارتعب أمام ما تنبأت به الساحرات واعتبره تخريفاً. فإن الليدي تتعامل مع الأمر بشكل مختلف: منذ البداية تجعل من نفسها المحرض على الجريمة، وهي إلى حد كبير تقترفها أيضاً. وهكذا لا تعود مشيئة الأقدار قابلة للتنفيذ إلا عن طريق وسيط هو الجشع والشر البشريين، اللذان تمثلهما الليدي ماكبث وتجر زوجها إلى جحيمهما. من هنا ليس غريباً، أن تكون إحدى أكثر عبارات المسرحية إثارة للرعب، تلك التي تقول إن "عطور الجزيرة العربية كلها لن تكون قادرة على تطهير يد الليدي ماكبث" ممَ؟ من بقعة الدم التي تركتها الجريمة عليها.
أعمق مآسي شكسبير
مسرحية "ماكبث" في نظر الباحثين هي "في سيكولوجيتها، أعمق مآسي شكسبير". وتحديداً لأن الشخصية الرئيسة فيها هي ليدي ماكبث، تلك، التي "تنتقم لهزيمتها في الحب وفي الأمومة"، جارة ماكبث إلى الجريمة، إلى الكابوس، بعيداً من النوم. ولعل أهم ما لاحظه كثيرون هو أن الكلمتين المسيطرتين أكثر على ماكبث هما "الخوف" و"النوم". الخوف كلي الحضور أما النوم فغائب تماماً. لأن ماكبث، إذ اقترف جريمته، ليس في إمكانه أن يسلم أمره إلى الآلهة ويعتبرها، كما لدى الإغريق، مسؤولة عنه. المسؤولية مسؤوليته، وما يرعبه ويحرمه النوم ليس خوفه من العقاب. أبداً، ما يرعبه هو أنه كان قادراً على ارتكاب الجريمة، وبكل بساطة، أما العقاب فلربما سيكون هو خلاصه، لا نهايته. جريمة ماكبث ليست أمراً إلهياً، إنها ثورة على الأمر الإلهي. فهل نحن بعيدون عن مأساة الإنسان منذ الأزل؟ وهل ثمة عمل أدبي وصل فيه الشر إلى ما هو أبعد من هذا؟ وصل إلى مكان يتناغم كلياً مع ذلك البعد الإنساني الخالص الذي يتحدث عنه ماركس إذ يؤكد ليس فقط "حتمية الشر في حياة الإنسان" وتحديداً منذ اللحظة التي ولد فيها الإنسان في تاريخ الكون، وليس فقط أن الصراع في إطار وجود الشر وغالباً في داخل الإنسان أكثر مما في خارجه، هو واحد من الصراعات الأساسية التي يتعين عليه خوضها كي يؤكد وجوده، بل أكثر من هذا: ضرورة الشر في رفد الوجود الإنساني بمعناه الحقيقي وصولاً حتى إلى دوره، في عودة من ماركس تلائم هذا الأخير تماماً، إلى دوره الاقتصادي بوصفه خالقاً بالغ الأهمية لـ... فرص العمل صوناً للإنسان من البطالة والعيش عالة على "المجتمع"...