حمزة مصطفى
ورثنا من الحقبة الماضية، حقبة قبل عام 2003 ضرورة واحدة مركبة وهي «القائد الضرورة». ولأن العهد كان دكتاتوريا فإن تلك العبارة كانت واسعة الاستخدام في الخطاب السياسي، وفي وسائل الإعلام، بل وتجري على الألسنة دون خشية أو وجل، خصوصا إنها كانت أحد مصادر الحماية لمن يستخدمها أو يوظفها لمختلف الأغراض، حتى لو أراد إبلاغ العارضحلجي كتابة عريضة، تتضمن شكوى أو طلبا عاديا مشفوعة بعبارة «في زمن القائد الضررورة.. كذا».
سقط ذلك العهد على يد الأخوة الأميركان، وحلت بركات الديمقراطية الأميركية.
تلك الديمقراطية التي بات أكثر الكافرين بها اليوم، هم ممن كانوا يفلسون الفسيفس والضلوع والقوزي مشفوعا بأنواع الرز على الموائد، التي يحضرها كبار ممن صاروا محتلين.
المهم تلك حكاية أخرى لكن ما يهمنا هناك هو الاستخدام الواسع لمفهوم الديمقراطية، بدءا من أول حاكم مدني أميركي بول بريمر إلى آخر سفيرة أميركية تعددت تسمياتها من سعادة السفيرة أيام السمن والعسل إلى سفيرة الشر أيام الغضب والزعل.
ولأن الينا رومانسكي كثيرة التغريد، بسبب وبدون سبب فقد حازت لقب الشمطاء مثل أختها، بدون رضاعة جينين بلاسخارت، التي كانت قد انتقدت من يطلق عليها العجوز الشمطاء قائلة إن بعضهم «أشمط» منها.
ولأن الضرورة تقتضي أن نتناول أحد أكثر المفردات تداولا بعد 2003 وهي مفردة «الضرورة» نفسها لكن بدون قائد، فإن ذلك يلزمنا الحديث عن الأسباب، التي جعلتها من بين أكثر المفردات تداولا دون لصقها بالقائد.
في تقديري أن السبب يعود إلى أنه في الوقت الذي كان هناك شخص واحد يحتكر المجال العام، ولا منافس له لذلك حاز طوال 35 عاما لقب القائد والضرورة معا، فإنه بعد عام 2003 لم يعد بمقدور أحد احتكار المجال العام.
طبعا ليس بسبب الديمقراطية التي هطلت علينا أكثر مما هطلت على أهالي السويد والنمسا وسويسرا أضعافا مضاعفة بل نتيجة، «الفالتو» السياسي الذي كان أحد النتائج غير المحسوبة للديمقراطية، عندما تكون ولادتها مشوهة أو قيصرية. ولأن لكل مكون وطيف وحزب وطائفة وجماعة بل ومدينة وقضاء وناحية وقرية وحي سكني، زعيما وتاج راس، فلم يعد بمقدور أحد احتكار مفردة الضرورة، لكي يقال القائد الضرورة أو الزعيم الضرورة أو الحجي الضرورة.
مفردة الحاج تسري على الجميع دون استثناء، إلى الحد الذي بات يجري تداولها لدى الأجهزة الأمنية أحيانا.
ومفردة الزعيم هي الأخرى متاحة للجميع بحيث يتم توظيفها لصالح أي كان، حين يستقبل يقال استقبل الزعيم وحين يودع يقال ودع الزعيم أو زار الزعيم أو وزع الزعيم.
بقي الاستخدام الآخر الأكثر شيوعا لـ «الضرورة» هي ضرورات الحسم. فعند كل بيان يخص لقاءً ثنائيًّا أو جماعيًّا للبرلمان أو للائتلافات أو القوى الحاكمة أو القادة أو الزعماء، فإن المفردة الأكثر شيوعا في الإستخدام هي اتفق الطرفان على «ضرورة «حسم الملفات العالقة. أو أكد الطرفان «ضرورة» تقديم الخدمات للمواطنين.
ومن بين الضرورات الأكثر ضرورة في التداول هي «ضرورة» حسم القوانين العاقلة أو المعطلة أو المؤجلة في البرلمان، وفي مقدمتها قانون النفط الغاز، قانون مجلس الإتحاد، قانون المحكمة الإتحادية العليا.
ولأن هذه القوانين «تسمع حس» من ينطق بها منذ أكثر من 18 عاما فإن «ضرورة» حسمها لاتكاد تغيب عن الخطاب المتداول اليومي في الاجتماعات واللقاءات والبيانات والتغريدات، طالما إنها لا تخرج في كل الأحوال عن كونها مجرد إسقاط فرض تفرضه.. ضرورة الخطاب.