مؤشرات الرسوخ والخلل في العملية الديمقراطية
15-تموز-2023
شمخي جبر
الديمقراطية الراسخة هي نظام يتفق او يستجيب لكل المعايير الإجرائية للديمقراطية وتكون فيه كل الجماعات السياسية الرئيسة موافقة على المؤسسات السياسية القائمة وملتزمة بقواعد اللعبة الديمقراطية. ويشير بعض الباحثين الى ثلاث عناصر ذات أهمية خاصة توفرها يشكل علامة على رسوخ العملية الديمقراطية:
1 ـ عدم وجود قوى او جماعات سياسية مهمة تسعى لقلب النظام الديمقراطي او الانسحاب منه.
2 ـ اعتبار الشعب عموما الإجراءات والمؤسسات الديمقراطية كأكثر الوسائل ملائمة لإدارة الحياة العامة مع وجود تأييد ضعيف او محدود لبدائل أخرى.
3 ـ قبول القوى السياسية وتعودها الاحتكام الى القوانين والإجراءات والمؤسسات الخاصة بالعملية الديمقراطية الجديدة في حل خلافاتها وصراعاتها. تعد الديمقراطية راسخة عندما تتوفر هذه العناصر الثلاثة.
ولمناقشة هذه العناصر او العوامل الثلاثة ومدى تطابقها مع الواقع العراقي او وجودها او انعدامها في الحياة السياسية العراقية الراهنة، سنجد وفقا للعامل الأول تواجد قوى تعمل بالضد من العملية السياسية، وترفض جميع القيم الديمقراطية وتعمل بكل ما أوتيت من قوة للإطاحة بنتائج العملية السياسية، بل تشكك بالعملية السياسية وشرعيتها، بل بالتغيير برمته.
وتتمثل هذه القوى بحشد قد يبدو للوهلة الأولى انه غير متجانس إلا أن تجانسه يكمن او ينطلق من معاداته ورفضه للآليات الديمقراطية وما تمخض عنها. اتخذ موقفه هذا لتضرر مصالحه بشكل مباشر، او انه يتخوف من الضرر الذي سيلحق يقيمه او مصالحه من جراء الحراك السياسي الديمقراطي، وقد يقع ضمن هذا السياق بقايا النظام السابق، او بعض القوى الاجتماعية التي تحمل قيما تتعارض مع القيم الديمقراطية.
هذا فضلا عن القوى الإقليمية التي تعتقد ان التحول الديمقراطي في العراق قد يستهدفها او يصيب بعض مصالحها بالضرر، فتضع العصا في عجلة التحولات الديمقراطية من خلال دعمها لبعض القوى التي تصطف في خانة الرفض، ولا يمكن إغفال دور بعض القوى من داخل العملية السياسية والتي قال عنها رئيس الوزراء العراقي (إنها تضع رجلا في العملية السياسية، فيما تضع الأخرى خارجها).
ويتأتى هذا الموقف من بعض الأطراف المشاركة في العملية السياسية لأنها لم تصل الى قناعة تامة وأكيدة بالقيم الديمقراطية، ولم تحسم أمرها فبقى موقفها متذبذبا، فأضحت لا تعلم هل هي في خانة الولاء ام في المعارضة، بل أعلن بعضهم وبشكل صريح وواضح عن النية بالانسحاب من العملية السياسية، واستخدمت كورقة للصعود من سقوف المطالب خارج الاستحقاق الديمقراطي وقوانينه، في الوقت الذي يعد النظام راسخا عندما ينظر إليه والى العملية الديمقراطية كسبيل لنظام سياسي متطور ولا بدائل أخرى أصلح منه وموافقة القوى السياسية على أساس ان تلك هي الوسائل الملائمة لتنظيم الحياة السياسية.
وللعودة لدراسة وتحليل العنصر الثاني ومطابقته مع الواقع السياسي العراقي، والمتضمن على رسوخ الحياة الديمقراطية وسلامة الحراك السياسي، وموقف الشعب من القيم والممارسات الديمقراطية، على أساس ان الديمقراطية ممارسة وسلوك لا بد ان يتأصل في داخل القيم المجتمعية.
ويتم التركيز في اغلب الأحيان على الثقافة باعتبارها أكثر فاعلية في ثبات وديمومة الحالة الديمقراطية، اذ يكون النظام أكثر أمانا عندما تكون بناه وصيرورته منسجمة مع القيم الشعبية المجتمعية والنخبوية أكثر منها متصادمة، والمجتمع العراقي الذي عاش لسنوات طوال وما تعرض له من عمليات ثقافية وإعلامية سميت في حينه عملية (بناء الإنسان) التي تعني اعادة إنتاج قيم الاستبداد والعنف، وعبادة الفرد الرمز الذي يمتلك كل الحلول لكل المشاكل ويواجه المصاعب بعصاه الغليظة، لم يستطيع هذا المجتمع وخلال هذه الفترة القصيرة ان يستسيغ مفاهيم وقيم التعددية والتنوع واحترام الاختلاف، فنظر بعين الريبة والشك لهذه القيم، فضلا عن ابتعاد النخب السياسية وأحزابها هموم الواقع المجتمعي وانشغالها في تسابقها الى غنيمة السلطة وثمار المناصب وكراسي الحكم الوثيرة.
أما العنصر الثالث المفقود من سياق الحراك السياسي (قبول القوى السياسية وتعودها الاحتكام الى القوانين والإجراءات والمؤسسات الخاصة بالعملية الديمقراطية الجديدة في حل خلافاتها وصراعاتها)، مراجعة سريعة لمراحل العملية السياسية وتطوراتها، نجد ان النخب السياسية بقت محبوسة داخل شرنقة الهيمنة ورفض القوانين الديمقراطية واللجوء للقوة والعنف والاستعانة بمليشياتها لتصفية حساباتها مع المختلف، فنرى ان جلسات البرلمان مثلا حين تناقش داخلها بعض الإشكالات السياسية فيحدث اختلاف بين الأطراف، يعقب هذا في بعض الأحيان تصعيد لعمليات العنف، هذا يعني عدم الاحتكام للآليات الديمقراطية وقوانينها لحل الخلاف وبالتالي إجراء الصراعات في فضاءات سلمية.
نتلمس هدا من خلال مواقف انفعالية عاطفية بعيدة كل البعد عن العقلانية التي هي احد الأسس المهمة للحياة الديمقراطية، والتي حاصرت الحياة السياسية، بل حصرتها في خانق ضيق، انطلق من قيم وثقافة تقليدية قادت الى المحاصصات الطائفية والعرقية، وصعدت من التحشيدات في الخنادق الطائفية والعرقية التي أصبحت بديلا عن الهوية الوطنية التي تجمع تحت خيمتها كل المكونات العراقية .
ان روح الاستئثار والهيمنة التي تميزت فيها الكثير من المواقف، كانت تنطلق من مواقف شعبوية أملتها المؤسسات التقليدية الطائفية والقبلية لما تملكه من سلطة اجتماعية وسياسية ولا تنطلق من أفق استراتيجي يأسس لهدا التغيير.
يقول الدكتور عزمي بشارة النقاش القائم حالياً في النظرية الديموقراطية حول أيهما يسبق الآخر: إقامة النظام الديموقراطي وتعميم حق الاقتراع أم الثقافة الديموقراطية؟ وقد تابعنا جميعاً كيف تعثرت مسيرة الديموقراطية في بلدان حازت فيها على الأغلبية في انتخابات ديموقراطية قوى غير ديموقراطية، كما تابعنا تجارب أخرى تاريخية تم فيها إقامة النظام الديموقراطي دون انتظار انتشار الثقافة الديموقراطية بالانتقال المباشر من ديكتاتورية فاشية الى ديموقراطية برلمانية في دول أوروبية في منتصف هذا القرن، وشهد التاريخ ثالثاً النموذج الكلاسيكي الذي تطورت فيه الديموقراطية بالتدريج وعمم خلال هذا التطور حق الاقتراع بالتدريج وانتشرت فيه الثقافة الديموقراطية تدريجياً.
ويبدو انه لا يمكن تاريخياً العودة على هذا النموذج الأخير فقد انتشر مطلب الديموقراطية وانتشرت إمكانية تخيله شاملا في حالته الجاهزة في كل بقعة من بقاع المعمورة وأصبح من غير الممكن ممارسة ديموقراطية مجتزئة بمنح حق الاقتراع لمن لديهم ثقافة ديموقراطية، أو للنخب فقط، لمن لديهم شهادة جامعية تحديداً كما اقترح مؤخراً أحد المثقفين الديموقراطيين البارزين العرب) إلا إن البعض مازال ينظر للشعوب على إنها لم تصل لسن الرشد ولابد من رعاية ولي أمرها، هؤلاء يشكلون حجر عثرة أمام التحولات الديمقراطية، لأنهم لا ينطلقون في مقولاتهم هذه من فراغ بل من أنساق ثقافية مازالت تجد من يتبناها ويدافع عنها.