ما ينتظر الحكومات
29-أيار-2023
كرم نعمة
كان تويتر الحنجرة العميقة التي اقلقت الحكومات العربية، المستقرة منها، دعك من الحكومات التي فقدت سيطرتها بسبب القتال والاحتجاجات.
تلك الحنجرة كانت تستخدم بضع كلمات مكتوبة بغض النظر عن عمقها التعبيري وأحدثت كل هذا الخلاف المسموم، وفرضت على الدول إعادة كتابة قوانينها وفق الضرر الذي يلحقه هاشتاغ يكون موضع تفاعل بين الملايين من المستخدمين.
المفاجأة اللاحقة انطلقت من “كلوب هاوس” وهي منصة تفتح مساحات صوتية للنقاش بين المستخدمين، وبما ان تويتر سبقه وكان المعبر الأكثر وضوحا عن المجتمعات في المشرق والمغرب العربي، كان من الضرورة بمكان أن ينتقل له ذلك الصوت الجماعي المفتوح، فتأثير الكلام يفوق الكتابة عندما يتعلق بالشأن السياسي.
منذ أشهر تسود مساحات صوتية تفتح يوميا منها المئات على تويتر وتستمر حتى ساعات متأخرة من الليل، يتحدث فيها نشطاء عرب بثقافات متفاوتة ويركز أغلبها على الشأن السياسي، ليكون المعبر بامتياز عن الفكرة التاريخية لمفهوم “الحنجرة العميقة”.
لم تستطع الحكومات العربية من قبل لجم تغريدات تويتر مع كل التشريعات والاحكام التي فرضتها، فما الذي ينتظرها من ارتفاع ذلك الصوت في منتديات الرأي ليصل الى الصراخ والاتهامات وفتح ملفات الفساد وتبادل المعلومات الحقيقية والمضللة منها.
اننا امام واقع جدال سياسي مقلق وضار ومفيد في آن واحد، يختلف بالكامل عما كان يمكن ان تسيطر عليه القنوات الفضائية والاذاعات. عندما كانت تتحقق مسبقا من أفكار المتحدثين، ولجم من لم يتفق مع خطابها.
ما كان يحصل منذ صعود القنوات الفضائية العربية المعبرة عن خطاب أحزاب وميليشيات وتجار نوادي وحوزات تضفي على الفاسدين هالة من الورع، يمكن اختصاره بجملة بسيطة “إذا كنت تريد أن تكتسب راتبا من شركة إعلامية كبيرة، فعليك أن تفعل ما يُقال لك ولا تخرج عن الخط” يمكن أن نجد جميعا الذريعة الملائمة لتسمية موقفك بعدة توصيفات، لكن “الكذب” سيكون من بينها حتما.
بالطبع ذلك الحال لا علاقة له بالقراءات التحليلية للأخبار عندما تنتهجه القنوات الفضائية في تجمع المؤشرات التي تدافع عن فكرتها وتهمل غيرها. ومثل هذا الحال مفيد بالنسبة إلى شيريل كينيدي هايدل أستاذة الصحافة في جامعة ولاية لويزيانا الأمريكية، التي ترى أن مصطلح “وسائل الإعلام السائدة” يبقى مفيدا طالما أن الصحافة تعاني من مشكلة الاتفاق على مضمون الأخبار، بوجود أشخاص بأهداف ومواقف يمتلكون سلطة القرار، حتى الصحافيين لا يمكن لهم أن يصنعوا خطابا موحدا جامعا للرأي العام.
اليوم يدير تلك المنتديات الصوتية نشطاء أينما كانوا ليس من بينهم ممن لا يستطيعون الخروج عن الخط، وليس بمقدور الدول السيطرة عليها، بيد ان المعلومات سرعان ما يتم تداولها وفتح مساحات صوتية متجددة لمناقشتها.
لذلك يبدو استعادة مصطلح “الحنجرة العميقة” مع شيوع المساحات الصوتية على تويتر مفيدا جدا لتأكيد أن الواقع الإعلامي تغير، ولا يمكن للحكومات أن تعيده إلى الوراء، ثمة أدوات تكنولوجية تبدو بسيطة ومتوفر للفقراء والأغنياء على حد سواء، في المدن والقرى النائية، لكنها تحتوي ملايين الحناجر التي توصل المعلومة إلى الجمهور، ولم تعد هناك “حنجرة عميقة” واحدة تسيطر عليها الصحافة النخبوية أو الثرية أو التي تديرها الحكومات.
الشيء الأكثر شجاعة في تلك المنتديات هو إخبار الجمهور والحكومات بما قد لا يرغبون في سماعه، والإصرار على التفكير المستقل مع نمو نموذج العمل الخاص الذي توفره تلك المساحات يوما بعد يوم مع زيادة تأثيرها على الراي العام.
لذلك تواجه الدول المرحلة الأصعب التي ارتقت اليها مواقع التواصل، بصعوبة الوقوف ضد أي تيار هائج، يضرب من جميع الجوانب. فالشعوب سترحب بلا تردد بالأفكار المغرية القائلة بأن الحلول لمشاكل البلد واضحة ومريحة. وهذا ما لا تريد سماعه الحكومات الفاسدة والضعيفة.
لم يفت راسمو استراتيجيات الحكومات العربية، هذا الأمر ودخلت سريعا على خط المساحات الصوتية التي وفرها تويتر، وعرضت خطابها بنفس طريقة ما كانت تقدمه على مواقع التواصل، وكان واضحا بالنسبة اليها من هم الضيوف ومن هم الذين يصادر حقهم بالكلام. لكن هذا الدخول لا يبدو كافيا في منافسة متصاعدة يديرها النشطاء من دون أن يقف أمامهم أي عائق لاستمرار الكلام.
عندما تصبح القوة مرادفاً للتطرف أيا كان مصدر تلك القوة حكومات أو أحزاب أو مجموعات طائفية أو ميليشياوية، يسود المتنمرون. وعندما يصبح الاعتدال سمة مميزة للمجتمعات يتراجع التطرف، ذلك ما لم تقدر ان تصل له الحكومات العربية بجبروتها أو بديمقراطيتها المزعومة.
لهذا السبب امتدت عدم الثقة بالحكومات الى الاعلام المستحوذ على العقول اليوم، وزاد الانقسام في النظر الى القيم التي تتبناها وسائل الاعلام وعلاقتها بالجمهور، فبدلا من عدم الثقة بوسائل الإعلام التي ترتبط بمفهوم التحيز الحزبي والطائفي والسكوت على الفساد الحكومي، فإن المشكلة قد تكون في قلب أزمة الثقة بوسائل الإعلام، وتتجه الشكوك نحو الهدف الأساسي والمهمة التي يحاول الصحافيون ومن خلفهم الحكومات في تحقيقها في المقام الأول.
اليوم يسلب الملايين من المشاركين في المساحات الصوتية على تويتر بعد أن وصلت الى عشرات الملايين من الساعات المسجلة، خلال بضعة أشهر، ليس صوت وسائل الاعلام فحسب، بل صوت الحكومات نفسها. ويفند خطابها.
هؤلاء يعبرون عن تفاؤلهم بمستقبل نموذج كسره النمط الاعلامي الذي بقي يخدم رجال السياسة والنخب الاقتصادية المؤثرة.