بغداد - وكالات
منذ ليلة الخميس، شهدت سوريا أحداثاً متسارعة، إذ تعرضت قوات الأمن التابعة للجيش السوري الجديد لهجمات منظمة وكمائن متفرقة من قبل "فلول النظام السابق"، ما أسفر عن مقتل العشرات من الجيش وقوى الأمن.
وتداول السوريون مقاطع فيديو تظهر جثثاً تنتشر في أماكن متفرقة. فكيف بدأت هذه التطورات؟ ومن المسؤول عنها؟
البداية: الهجوم في بيت عانا
بدأت الأحداث في قرية بيت عانا بريف جبلة في محافظة اللاذقية، عندما أطلق مسلحون مجهولون النار على دورية عسكرية تابعة للأمن الداخلي.
وتكتسب هذه القرية أهمية خاصة، إذ تعتبر مسقط رأس اللواء سهيل الحسن، قائد الفرقة 25 سابقاً، الذي كان من أبرز قادة الجيش السوري في عهد الرئيس المخلوع بشار الأسد.
ردت قوات الأمن على الهجوم على دوريتها بإرسال تعزيزات، شملت صواريخ رشاشة وطائرة مروحية، لمحاولة السيطرة على الوضع، إلا أن الأمور تصاعدت بسرعة، بعد أن شنت مجموعات مسلحة هجمات منسقة على عشرات المواقع في منطقة الساحل، مستهدفة مناطق في ريف اللاذقية وريف طرطوس وقرى جبلة.
سلسلة كمائن
ومع تصاعد التوتر، تعرضت قوات الأمن الداخلية لاستهداف في أكثر من عشرة كمائن خلال توقيت متزامن، أبرزها كان في ريف جبلة، حيث قُتل 13 عنصراً من الشرطة التابعة لوزارة الداخلية.
وأمام هذا التصعيد، أصدرت وزارة الدفاع أوامر بالاستنفار الكامل لكافة القطع والثكنات العسكرية، وإرسال أرتال عسكرية نحو الساحل من عدة محافظات، أبرزها إدلب وريف حلب وحمص.
لكن هذه الأرتال تعرضت أيضا لكمائن قبل وصولها إلى اللاذقية، حيث نصب المسلحون الكمائن بين الأحراش، ما تسبب في خسائر كبيرة في صفوف الجيش.
ثم استعانت وزارة الدفاع بطائرات "الشاهين" المسيرة، التي نفذت ضربات مركزة على تحركات الجماعات المسلحة، ومع استمرار المعارك، أُجبرت بعض الأرتال العسكرية على تغيير مساراتها، بينما استمرت الاشتباكات العنيفة في مختلف الجبهات.
من يقف خلف هذه التوترات؟
تتهم قوات الأمن السورية من تصفهم بــ"فلول النظام السابق" بالهجوم على دورياتها وتنفيذ العناصر ضد قواتها.
ومع استمرار المعارك، بدأ عدد من السوريين بتداول اسم العميد السابق في نظام الأسد غياث دلّا، أحد قادة الفرقة الرابعة المنحلّة، الذي أعلن تشكيل "المجلس العسكري لتحرير سوريا".
بينما قالت تقارير إعلامية، إن دلاّ تحالف مع قيادات سابقة في جيش النظام السابق بهدف "إسقاط النظام القائم".
كما برز اسم إبراهيم حويجة، رئيس المخابرات الجوية السابق في سوريا والمتهم باغتيالات بعهد حافظ الأسد، الذي قال مصدر حكومي إن قوات الأمن قامت باعتقاله خلال العملية العسكرية في جبلة.
ولا توجد تفاصيل حول حياة حويجة، لكن العديد من المصادر أشارت إلى أنه متورط في اغتيال الزعيم الدرزي اللبناني كمال جنبلاط.
كما أشارت قوات الأمن أيضاً إلى الضابط في النظام السابق سهيل الحسن، الذي قالت إنه المسؤول عن الجماعات المسلحة التي هاجمت الدوريات الأمنية.
احتجاجات وفرض حظر التجوال
بالتزامن مع الهجمات، خرج متظاهرون من الطائفة العلوية في طرطوس وجبلة وريف اللاذقية، دعماً للتحركات العسكرية المناهضة للحكومة الجديدة، ورفضاً لحكم أحمد الشرع في سوريا، بحسب ما هتف المتظاهرون.
وفي المقابل، شهدت المناطق الموالية للجيش السوري الجديد حالة من الغليان الشعبي، حيث تعالت الدعوات لحمل السلاح ومساندة القوات الأمنية والعسكرية في حربها ضد المهاجمين.
ومع تزايد حدة الاشتباكات، فرضت السلطات حظر تجول في اللاذقية وطرطوس بعد دخول قوات وزارة الدفاع إلى المدينتين، فيما استمرت المواجهات العنيفة باستخدام الأسلحة الثقيلة في المناطق المحيطة، بينما فكت القوات الأمنية الحصار عن جبلة التي أعلنت عن "تمشيطها" بعد انتهاء العملية.
ومع تصاعد العنف في المنطقة، ازدادت المخاوف من انزلاق الأحداث إلى صراع طائفي واسع، خصوصا مع ظهور مؤشرات على عمليات انتقام متبادلة بين الأطراف المتصارعة.
إذ قال مصدر أمني لبي بي سي، إن القوات الأمنية عثرت على "حاجز أمني كامل تمت تصفيته ميدانياً في مدينة طرطوس"، حيث قُتل سبعة عناصر في وقت متأخر من ليلة الخميس، وعُثر على جثثهم صباح الجمعة بعد دخول أرتال وزارة الدفاع إلى المنطقة.
في تصريح خاص، أكد الخبير العسكري والاستراتيجي، أسعد الزعبي، خلال حديثه لبرنامج التاسعة على سكاي نيوز عربية أن ما يجري في الساحل السوري ليس مجرد اضطرابات أمنية عابرة، بل هو جزء من "فوضى خطيرة يتم توجيهها بدقة، وبأدوات داخلية وخارجية".
ويضيف الزعبي أن "هذه المجموعات لم تكن قادرة على تنفيذ عمليات بهذا المستوى دون دعم لوجستي وتسليحي من جهات خارجية".
وتشير التقارير إلى أن بعض العمليات نُفذت بتخطيط مشترك بين عناصر الفرقة الرابعة، الموالية للنظام السابق، وميليشيات إقليمية لها مصالح مباشرة في استمرار الفوضى.
ويقول الزعبي: "هناك تنسيق بين عناصر الفرقة الرابعة وحزب الله وبعض الفصائل المسلحة في الشمال الشرقي، والهدف الأساسي هو عرقلة أي محاولة لفرض الاستقرار من قبل الحكومة الجديدة".
من جهتها، ردت الحكومة السورية الانتقالية بإجراءات مشددة، حيث فرضت حظر تجول في اللاذقية وطرطوس، وأطلقت عمليات تمشيط واسعة في جبلة والمناطق المحيطة.
ويؤكد مصدر أمني أن هذه العمليات "تستهدف تفكيك الخلايا المسلحة، واعتقال جميع المتورطين في دعمها".
وتؤكد السلطات أن "الدولة لن تتسامح مع من تلطخت أيديهم بدماء رجال الأمن"، مشيرة إلى أن بعض الشخصيات المتورطة في الأحداث تقيم خارج البلاد، وتعمل على زعزعة الاستقرار بمساعدة جهات إقليمية.
الأجندات الخارجية.. كيف تُلعب الأوراق؟
يؤكد الزعبي أن "ما يحدث في الساحل السوري ليس مجرد اضطراب محلي، بل هو ساحة لصراع إقليمي معقد، حيث تسعى دول مثل إيران وتركيا وروسيا وحتى إسرائيل إلى تحقيق مكاسب عبر الضغط على الحكومة السورية الجديدة".
ويضيف: "إيران، على وجه الخصوص، لا تريد استقرار سوريا، لأنها ترى في ذلك تهديدًا لنفوذها العسكري والسياسي في البلاد. لذلك، تعمل عبر ميليشياتها على تغذية الفوضى وإبقاء المشهد مفتوحًا على كل الاحتمالات".
أما روسيا، فرغم تحالفها مع دمشق، فإنها "تستخدم الورقة الأمنية في الساحل لممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على الحكومة الجديدة"، كما يوضح الزعبي.
وفي مقابل ذلك قالت مصادر صحفية إن قوات أمنية نفذت إعدامات ميدانية في حق سكان بعض القرى العلوية المؤيدين للنظام السابق، من بينهم بعض المدنيين، منها في بلدة المختارية في ريف اللاذقية فجر الجمعة، كما أحرقوا عدد من المنازل التي يُعتقد أنها تعود لعناصر موالية للنظام السابق.
لكن وكالة الأنباء السورية نقلت عن مصدر أمني في وزارة الداخلية، إن "حشوداً شعبية كبيرة غير منظمة توجهت إلى الساحل، مما أدى لبعض الانتهاكات الفردية، ونعمل على إيقاف هذه التجاوزات التي لا تمثل عموم الشعب".
بين العمليات العسكرية والتدخلات الإقليمية، يبقى السؤال مفتوحًا حول مستقبل الساحل السوري. فهل ستنجح الحكومة في فرض الاستقرار عبر القبضة الأمنية وحدها، أم أن البلاد أمام مرحلة جديدة من الصراع طويل الأمد؟
وقال ناشطان من الطائفة العلوية والمرصد نقلا عن مصادر ومقطع فيديو إن مسلحين قتلوا ما لا يقل عن 24 رجلا من بلدة المختارية العلوية اليوم.
وقالت السلطات السورية إن العنف اندلع حينما شن مسلحون من فلول نظام الأسد هجوما داميا "مدروسا" على قوات الحكومة أمس الخميس.
وتؤثر أعمال العنف على جهود الرئيس السوري أحمد الشرع لترسيخ سيطرة إدارته التي تكافح لرفع العقوبات الأمريكية وتواجه تحديات أمنية أوسع نطاقا خاصة في الجنوب الغربي حيث تقول إسرائيل إنها ستمنع دمشق من نشر قوات.
وخرج السوريون إلى الشوارع للتظاهر دعما للحكومة في دمشق وغيرها من المدن الكبرى، في حين أشارت السعودية وتركيا، وهما حليفتان للحكومة، إلى دعمهما للحكومة السورية أيضا.
وقالت روسيا، التي كانت من أكبر داعمي الأسد لكنها تسعى إلى بناء علاقات مع الحكومة الجديدة، إنها تشعر بالقلق إزاء تدهور الوضع الأمني ودعت جميع القادة "المحترمين" في البلاد إلى وقف إراقة الدماء.
وأظهرت صور من المختارية ما لا يقل عن 20 جثة لرجال على جانب طريق في وسط المدينة، وبعضها ملطخ بالدماء. وتمكنت رويترز من التحقق من الموقع في الفيديو، لكنها لم تتمكن من معرفة توقيت تصويره أو هوية مصوره.
وقال ناشطان علويان طلبا عدم نشر اسميهما نظرا لحساسية الأمر إن عمليات القتل حدثت اليوم واتهما مسلحين تابعين لإدارة البلاد الجديدة.
ولم يرد المتحدث باسم الحكومة ومسؤولان مرتبطان بالسلطة الحاكمة على طلبات للتعليق.
وقُتل الشيخ شعبان منصور (86 عاما)، رجل الدين العلوي البارز، اليوم وابنه في قرية سلحب في غرب سوريا. وذكر اثنان من العلويين أن السكان اتهموا مقاتلين متحالفين مع دمشق بقتله. ولم يتسن لرويترز التحقق من صحة هذه الاتهامات.
يبدو أن الأحداث الحالية ليست سوى بداية لفصل جديد من المواجهة، حيث تتداخل الحسابات المحلية والإقليمية في لعبة معقدة قد تعيد رسم خارطة النفوذ في سوريا.
وقالت الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) نقلا عن مصدر أمني "بعد قيام فلول النظام البائد باغتيال العديد من عناصر الشرطة والأمن توجهت حشود شعبية كبيرة غير منظمة للساحل مما أدى لبعض الانتهاكات الفردية". وأضاف المصدر للوكالة "نعمل على إيقاف هذه التجاوزات التي لا تمثل عموم الشعب السوري"، دون تقديم مزيد من تفاصيل.
وفرضت قوات وزارتي الدفاع والداخلية سيطرتها على مدينة بانياس، بعدما اضطر عناصر جيش النظام البائد للانسحاب منها. وتقوم القوات حاليا بتمشيط محيط المدينة والطريق السريع باستخدام المدفعية الثقيلة والأسلحة الرشاشة.
كما تخضع مدينة جبلة للسيطرة شبه الكاملة من قبل عناصر وزارتي الدفاع والداخلية. في غضون ذلك، لا يزال عناصر مسلحين من "جيش النظام البائد" منتشرين في عدة بلدات وقرى في جبال الساحل السوري.
وتصاعدت أعمال العنف أمس الخميس عندما قالت السلطات إن مجموعات من الفصائل المسلحة الموالية للأسد استهدفت دوريات أمنية ونقاط تفتيش في منطقة جبلة والريف المحيط بها، قبل اتساع نطاقها.
وذكرت سانا أنه تم فرض حظر التجول في مدينتي طرطوس واللاذقية الساحليتين اليوم. ونفذت قوات الأمن عمليات تمشيط في المدينتين والجبال القريبة.
ويقول نشطاء علويون إن طائفتهم تتعرض للعنف ولهجمات، ولا سيما في ريف حمص واللاذقية، منذ الإطاحة بالأسد في ديسمبر/كانون الأول بعد عقود من حكم عائلته القمعي وبعد حرب أهلية.
وتعهد الشرع بإدارة سوريا بنهج يحتوي الجميع، لكن لم يتم بعد الإعلان عن أي اجتماعات بينه وبين كبار الشخصيات العلوية، على النقيض من أعضاء أقليات أخرى مثل الأكراد والمسيحيين والدروز.
خطر التصعيد
جندت الحكومة في عهد الأسد أعدادا كبيرة من الطائفة العلوية في أجهزة الأمن والجهاز الإداري في الدولة.
وفي حين نجح الشرع في إخضاع معظم مناطق سوريا ذات الأغلبية السنية لسيطرة دمشق، إلا أن مناطق مهمة لا تزال خارج سيطرتها، ومنها الشمال الشرقي والشرق اللذان تسيطر عليهما قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.
وقال جوشوا لانديس رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما "الفوضى وتزايد أعمال القتل من شأنهما أن يقوضا ثقة الدول الأجنبية والسوريين في حكومته وقدرتها على إخراج سوريا من هذه المرحلة الصعبة".
وألقى بيان صادر عن مجموعة من رجال الدين العلويين، من المجلس الإسلامي العلوي، باللوم في أعمال العنف على الحكومة، قائلا إن قوافل عسكرية أرسلت إلى الساحل بحجة مواجهة فلول النظام "لترهيب وقتل" السوريين. ودعا إلى وضع المنطقة الساحلية تحت حماية الأمم المتحدة.
وأدانت السعودية، التي عرضت الدعم الدبلوماسي لإدارة الشرع، "الجرائم التي تقوم بها مجموعات خارجة عن القانون في الجمهورية العربية السورية واستهدافها القوات الأمنية".
كما أعلنت تركيا، الحليف الوثيق للحكومة السورية الجديدة، دعمها لدمشق قائلة "إن التوتر في اللاذقية ومحيطها، فضلا عن استهداف قوات الأمن، من شأنه أن يقوض الجهود الرامية إلى قيادة سوريا إلى المستقبل في وحدة وتضامن".
قال مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسن اليوم الجمعة إنه يشعر بالقلق من الاشتباكات العنيفة والقتل في المناطق الساحلية بين قوات الحكومة السورية والعناصر الموالية للنظام السابق "مع تقارير مقلقة للغاية عن ضحايا مدنيين".
وبينما رجح البعض في البداية أن الهجمات كانت حركة مدعومة من الطائفة العلوية، إلا أن مصادر أمنية أكدت أن المقاتلين الذين شاركوا في الحملة ضد القوات الأمنية ينتمون إلى مختلف المحافظات والطوائف، وليس فقط العلويين.