مارتن فالزر مؤرخ الحياة اليومية في ألمانيا
12-أيلول-2023
سمير جريس
مع وفاة مارتن فالزر عن 96 سنة (24/3/1927 – 26/7/2023) ينسدل الستار على جيل الكبار المؤسسين للأدب في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، جيل هاينريش بل وغونتر غراس وهانز ماغنوس إنتسنسبرغر وزيغفريد لنتس.
مثل كثر من أبناء جيله جند فالزر في الجيش النازي في السنوات الأخيرة من العالمية الثانية، وبعد انتهائها شرع يدرس الأدب والتاريخ والفلسفة في توبينغن، وحاز عام 1952 درجة الدكتوراه بأطروحة تقدم بها عن الشكل القصصى عند فرانتس كافكا - هذا الأديب الذي كان تأثيره عليه طاغياً في البداية، حتى إن زملاءه أعضاء "جماعة 47 الأدبية" الشهيرة سخروا منه عندما قرأ أمامهم قصصه المبكرة، ونصحوه بأن يبحث عن أسلوبه الخاص. عثر فالزر على ذلك الأسلوب عندما بدأ يصور الحياة اليومية في ألمانيا. وخلال العقود التالية كتب فالزر مجموعة من الأعمال تصل إلى الـ50، تتوزع بين تمثيليات إذاعية وقصص وروايات ومسرحيات ومقالات، لكن فالزر روائي في المقام الأول، ويصور في أعماله حياة البرجوازيين الصغار الذين لا يستطيعون التحرر من قوانين المجتمع وعاداته، "أبطال" رواياته هم غالباً من الفاشلين الذين يشعرون بالنقص ويعانون مشكلة الهوية.
أطلق عليه النقاد "مؤرخ الحياة اليومية"، ومن رواياته التي تؤكد صحة هذا الوصف: رواية "زيجات في فيلبسبورغ" (1957)، ورواية "منتصف الوقت" (1960)، ونوفيلا "جواد هارب" (1978) التي تعد "لؤلؤة النثر الألماني"، وفيها أثبت فالزر من جديد قدرته الفائقة على الملاحظة والتحليل النفسي، وكذا براعته اللغوية. وبروايته "دفاع عن الطفولة" (1991) كان فالزر أول من تناول إعادة توحيد ألمانيا روائيا. أما روايته الذاتية "النبع الفوار" (1998) فقد احتفى بها عديد من النقاد كدرة بين أعماله، وفيها عاد فالزر إلى فترة صباه التي قضاها في بلدته "فاسربورغ" أيام النازية، وهو كان يعتبر "الرواية التي تخلو من السيرة الذاتية ليست رواية، وإنما بحث اجتماعي".
وفي السنوات الأخيرة، وعلى رغم تقدمه في العمر، كان ينشر في كل عام تقريباً كتاباً، سواء كان رواية أو تأملات، أو ذكريات. ومن أعماله البارزة في العقدين الأخيرين رواية "رجل عاشق" (2008) التي تتناول موضوعاً أزلياً: العشق في الشيخوخة، ولكن هل للحب عمر؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه فالزر عبر سرد قصة حقيقية مر بها أمير شعراء الألمانية، يوهان فولفغانغ فون غوته، عندما وقع وهو في الـ73 من عمره في حب فتاة في الـ19. هل هي، كما يكتب فالزر في روايته "قلة ذوق؟ شيخ متصاب ملعون يلهث وراء اللذات؟ ونهاية حزينة لشخصية عظيمة؟" أم أن الحب لا يقاس بالأعمار، أو كما يقول فالزر على لسان غوته: "حبي لا يعرف أني فوق السبعين". وقد صرح فالزر بعد صدور الرواية بسنوات أنه استلهم قصة غوته ليتحدث عن قصة حبه وهو يخطو نحو الـ80. أما آخر أعمال فالزر فقد صدرت في العام الماضي بعنوان "كتاب الأحلام". وليس هناك جائزة أدبية مهمة في ألمانيا لم يحصل عليها فالزر، كما حصل على عدد من الدكتوراه الفخرية. وخلافاً لمعظم زملائه الذين يكرمون مع تقدمهم في العمر، فقد حظي فالزر بالتكريم وهو بعد في سنوات الشباب، وعندما وصل إلى مشارف الـ50 كان قد نال أهم الجوائز الأدبية في ألمانيا، ألا وهي جائزة "بوشنر".
الكاتب و"الصوابية السياسية"
مثل غونتر غراس جند فالزر في مقتبل شبابه وخدم في الجيش النازي، وانتهت الحرب وهو في الأسر الأميركي. وحقق غراس، حامل نوبل وصاحب "الطبل الصفيح"، شهرة عالمية بثلاثيته عن دانتسيغ، ثم فجر جدلاً واسعاً بسيرته التي صدرت بعنوان "أثناء تقشير البصلة"، عندما اعترف بأنه التحق متطوعاً في فرقة "الإس إس" النازية خلال الحرب العالمية الثانية. أما مارتين فالزر فكثيراً ما أثار موجات واسعة من النقد والجدل، مع اختلاف الأسباب بالطبع. لقد تميز هذا الروائي طوال حياته بالصراحة والمباشرة في أحاديثه، وكثيراً ما أدلى بتصريحات سياسية صادمة تبتعد عن طقوس ما يسمى "الصوابية السياسية"، فكان يجني حيناً نقداً صائباً، وأحياناً هجوماً وتجريحاً غير موضوعي.
ومن أشهر المعارك التي خاضها فالزر كانت تلك المعركة التي اندلعت إثر إلقائه خطاباً في كنيسة القديس بولس في فرانكفورت عام 1998 بمناسبة فوزه بجائزة السلام التي يمنحها اتحاد الناشرين الألمان. وفي تلك الكلمة تناول الروائي موضوع تعامل الألمان مع ماضيهم، وبخاصة قضية "العبء التاريخي" الذي يثقل كاهلهم من جراء جرائم النازية، وهي القضية الأساسية التي شغلت المجتمع والأدب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، "كل ألماني خبر هذا العبء التاريخي"، يقول فالزر، إذ لا يمر يوم دون أن يحاسب الألمان على تلك الجرائم، على رغم أنه ليس هناك "إنسان عاقل" في ألمانيا ينكر جرائم المحرقة النازية في أوشفيتس، وليس هناك ألماني سيهون من بشاعة ما جرى هناك. شيء ما بداخله يرفض هذا العرض الدائم والمستمر للفضيحة الألمانية، وهو ما تقوم به أجهزة الإعلام يومياً. والنتيجة أن الكاتب بدأ يشيح بوجهه بعيداً عند عرض لقطات ضحايا المحرقة في التلفزيون مثلاً. يرى فالزر أن التناول المستمر لموضوع الهولوكوست واستخدامه "كهراوة أخلاقية" و"أداة تخويف" قد يأتي بنتائج عكسية في النهاية. وتساءل الكاتب: لماذا تركز وسائل الإعلام الألمانية خلال العقد الحالي على الماضي بهذه الصورة؟ ويرى أن الدافع وراء ذلك ليس إحياء الذكرى والتحذير، كلا، إن ما يحدث هو تحويل الفضيحة إلى أداة تستخدم لتحقيق غايات آنية لا علاقة لها بأغراض الذكرى النبيلة. أما النصب التذكاري لضحايا المحرقة المشيد في قلب برلين فهو في رأيه مجرد "كابوس في حجم ملعب كرة القدم" و"تضخيم لفضيحة ألمانيا".
الصراع السياسي
بعد إلقاء الخطاب المثير للجدل نهض الجميع وصفقوا لحامل الجائزة، إلا رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا آنذاك - السيد إغناتس بوبيس - الذي اتهم الكاتب بأنه يشعل فكرياً نار الفتنة، بل ويستخدم في حديثه العبارات ذاتها التي يستخدمها المتطرفون اليمينيون. رأى بوبيس أن فالزر يستكثر على نفسه التعمق في دراسة التاريخ. بعد ذلك بأسابيع عدة قال بوبيس: ليس لأحد أن يبحث عن الصفحات المشرقة في تاريخه ويتناسى الصفحات المظلمة، وأن من يتناسى ضحايا المحرقة، كأنه يحرقهم مرة أخرى. واعتبر أن هذا الخطاب لا يليق بحامل جائزة السلام الألمانية، لأنه يدعو إلى ما سماه "ثقافة إشاحة الوجه"، الأمر الذي يسمح للمتطرفين اليمينيين أن يستندوا على كلام فالزر. أثارت تصريحات بوبيس استياء مارتين فالزر الشديد. وقال إنه فيما يخص بالتذكير بإبادة اليهود في أوروبا فإنه هناك "كلمات روتينية معينة" يتم ترديدها، والويل لمن يغرد خارج السرب. وأكد الأديب أن كيفية تعامل الألمان مع التذكر والذاكرة الجمعية والماضي الألماني لا بد أن يتاح التفكير فيه للجميع وبالقدر نفسه من الحرية.
أساء البعض فهم خطابه معتقدين أنه يدعو إلى إشاحة النظر عن هذه الجرائم، وأنه يستخدم الحجج نفسها التي يتشدق بها أنصار اليمين المتطرف، ولذلك واجه فالزر اتهامات قاسية، واشتعل جدل فكري استمر سنوات طويلة، فيما بعد عقب فالزر على جدل "خطاب السلام" قائلا: "لو كنت قد تشدقت في الكنيسة ببعض الجمل المنتقدة في وداعة للمجتمع، لكنت قد أصبحت ذلك المثقف الذي يتسابقون لدعوته يوم الأحد كي يلقي عظة بدلاً من القس"، لكن فالزر كان يفضل الصدام والمواجهة عن المصالحة الزائفة، ويفضل أن يكون الكاتب الذي يشير إلى الجرح على أن يكون بوقاً لعبارات مستهلكة، ثم عاد وصرح بعد سنوات أنه لم يحسن التعبير عن أفكاره في خطاب جائزة السلام.
وبعد أربعة أعوام صدرت رواية "موت ناقد" (2002) التي تناول فيها فالزر سلطة النقد والإعلام في ألمانيا، وسخر من نقاده، لا سيما الناقد الأشهر مارسيل رايش رانتسيكي. ورأى البعض أن الرواية تشبه حكماً بالإعدام على هذا الناقد اليهودي الكبير، وأنها تحتوي على كل النعوت النمطية التي كانت توجه لليهود أيام النازية، مثل الطفيلية والتعطش إلى السلطة، والنهم إلى الجنس.
ما يتبقى
وأخيراً، فليس خطاب جائزة السلام ولا رواية "موت ناقد" هما ما سيتبقيان من أعمال فالزر عند التأريخ للأدب الألماني، بل سيذكر النقاد أنه ألف أعمال كلاسيكية عدة، وأن روايته "منتصف الوقت" التي صدرت عام 1960 مثلت مع رواية "الطبل الصفيح" لغونتر غراس و"تخمينات حول يعقوب" لأوفه يونسون الذروة الأولى في أدب ما بعد الحرب.
ويستطيع القارئ العربي مطالعة أربعة أعمال لفالزر مترجمة إلى العربية، وهي: مسرحية "معركة منزلية" (صدرت بترجمة إبراهيم وطفي في داره الخاصة 1994)، ونوفيلا "جواد نافر" (ترجمة علي أحمد محمود، دار الجمل 2004)، ورواية "رجل عاشق" (ترجمة سمير جريس، دار شرق غرب للنشر 2008)، وأخيراً رواية "حياة فتاة - القديسة" (ترجمة أحمد الزناتي، الدار الأهلية 2021).