ماركس الذي يجب تحريره من تشويهات الأيديولوجيا الشيوعية
12-أيلول-2023
مشير باسيل عون
من مفارقات تاريخ الفكر الفلسفي أن الذي استطاع أن يضعف أو، في الأقل، أن يزعزع العمارة الهيغلية الضخمة لم يكن فيلسوفاً بحسب المعنى التقني الدقيق. إنه الثائر الاجتماعي عالم الاقتصاد المؤرخ الفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي ولد عام 1818 في مدينة ترير الألمانية في أسرة يهودية كان الجد فيها حاخاماً، في حين انتقل الأب إلى الإيمان المسيحي البروتستانتي خوفاً من فقدان نفوذ مهنة المحاماة التي كان يمارسها. درس ماركس القانون في بون، ثم في برلين حيث خالط جماعة اليسار الهيغلي، وذلك بعد أن قرأ بنهم أعمال هيغل الذي أثر فيه تأثيراً بالغاً. وما لبث أن أنهى عام 1841 دكتوراه الفلسفة بأطروحة تناولت الفكر المادي الإغريقي القديم عنوانها "الاختلاف في فلسفة الطبيعة بين ديموقريطوس وإبيقوروس"، وأظهرت ميله المبكر إلى الإلحاد النظري.
بدايات السيرة النضالية
كان ماركس يرغب في أن يدرس في جامعة بون، غير أن موقف الإدارة السياسية في الولاية من اليسار الهيغلي، لا سيما من صديقيه اللاهوتي الفيلسوف الألماني برونو باور (1809-1882) والفيلسوف الألماني لودڤيغ فويرباخ (1804-1872) أثبط عزيمته، فصرف النظر عن الطموح الأكاديمي هذا. على رغم تأثر ماركس بالجدلية الهيغلية، فإن الأفكار الإلحادية التي بثها فويرباخ في كتابيه "جوهر المسيحية" (Das Wesen des Christentum) و"فلسفة المستقبل" (Grundsätze der Philosophie der Zukunft) أفضت بالشاب الثائر إلى اعتماد المذهب المادي المحض. التأمت هذه الكوكبة من الفلاسفة المشاكسين، فأنشأوا جريدة سياسية تعارض النظام الحاكم (Rheinische Zeitung)، وعينوا ماركس مدير التحرير فيها. غير أن الحكومة البروسية في منطقة الراين الألمانية منعت الجريدة في عام 1843، فاستقال ماركس من إدارة تحريرها، بعد أن عارض قرار مالكيها مسايرة الحكومة وتغيير نهج المقالات السياسية.
في هذه الأثناء اقترن ماركس برفيقة طفولته يني فون ڤستفالن المتحدرة من أسرة نبلاء المقاطعة، وقد عين شقيق من أشقائها وزير الداخلية في الحكومة البروسية. رزق ماركس سبعة أولاد من هذا الزواج، ولكن ثلاث بنات من ذريته هذه قاومن المرض والموت المبكر، وهن يني ولاورا وإليانور.
في عام 1843 انتقل ماركس وزوجته يني إلى باريس، وأنشأ فيها مجلته "الحوليات الفرنسية - الألمانية" (Deutsch-Französische Jahrbücher) التي لم يصدر منها سوى عدد واحد. في باريس التقى الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797-1856) الذي امتدح جرأته وشجاعته في إحدى حواشي كتاب الرأسمال. أما اللقاء الحاسم فجمع بينه وبين صديق عمره المنظر السياسي والاقتصادي الفيلسوف الألماني فريدريش إنغلز (1820-1895). بفضل الإقامة الحرة في باريس، استطاع ماركس أن يؤلف قسماً من نصوصه الأساسية التي لم تنشر إلا بعد مماته: "في نقد فلسفة هيغل في القانون" (Zur Kritik der Hegelschen Rechtsphilosophie)، "مخطوطة النصوص الاقتصادية - الفلسفية" (Ökonomisch-philosophische Manuskripte)، "الأيديولوجيا الألمانية" (Die deutsche Ideoldogie)، "أطروحات في فويرباخ" (Thesen über Feuerbach). وما لبث أن انتقد آراء أصدقائه في الفلسفة والسياسة، فأصدر كتابه الشهير "الأسرة المقدسة" (Die heilige Familie).
لم تتوان الحكومة البروسية عن ملاحقة ماركس وأصدقائه حتى في معقل منفاهم الباريسي. فطردته السلطات الفرنسية، واضطرته إلى مغادرة أراضيها والالتجاء إلى بروكسل حيث انتسب وصديقه إنغلز إلى جمعية نضالية سرية تناصر الثورة الشيوعية. في المدينة البلجيكية هذه تناول ماركس الاشتراكية، لا سيما في فكر عالم الاجتماع والاقتصاد المناضل السياسي الفيلسوف الفرنسي بيار-جوزف برودون (1809-1865)، تناولاً تحليلياً كشف كتابه المعروف "بؤس الفلسفة" الموضوع أصلاً باللغة الفرنسية (Misère de la philosophie) ثغراتها المنهجية وعيوبها الفكرية ومواضع عقمها التاريخي.
بعد كر وفر وترحال مضطرب بين بروكسل وكلن وباريس، يمم ماركس في عام 1849 شطر العاصمة الإنجليزية لندن وأقام فيها، منصرفاً إلى تنظيم نضاله الثوري، ومستعيناً بصداقة إنغلز الذي كان يدعمه مالياً من أرباح معمل الغزل الذي أنشأه والد الصديق الوفي هذا في مدينة مانشستر. بفضل جهود ماركس الحثيثة انبثقت في عام 1864 جمعية ثورية جديدة سميت رابطة العمال الدولية (Internationale Arbeiterassoziation)، عرفت بالأممية الأولى. أثناء الإقامة اللندنية أدرك ماركس أنه يجب محاربة ضربين من التطرف الفكري: انحراف الاشتراكية اليمينية التي جسدها فكر الكاتب السياسي البروسي فردينن لاسال (1825-1846)، وانحراف الاشتراكية اليسارية التي تجلت في فكر الفيلسوف الروسي ميخائيل باكونين (1814-1876) وفي مذهبه الأناركي الفوضوي العبثي.
أما السنوات الأخيرة فقضاها ماركس عاكفاً على تجويد أبحاثه في الاقتصاد السياسي. فإذا به ينشر في عام 1859 دراساته في "نقد الاقتصاد السياسي" (Zur Kritik der politischen Ökonomie)، ويصدر في العالم 1867 القسم الأول من ثلاثيته الضخمة الرأسمال (Das Kapital). من بعد أن أنهكته نضالاته السياسية وأحواله المعيشية الرديئة، ومن بعد أن توفيت امرأته في عام 1881 انطفأت شعلته، وهو جالس في مقعده يتأمل في مظالم المجتمع الإنساني. بعد وفاته أكب صديقه إنغلز على إصدار المجلد الثاني (1885) والمجلد الثالث (1894) من كتاب الرأسمال. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الأممية الثانية انعقدت في باريس عام 1889، في حين أن الثالثة اجتمعت في روسيا عام 1917.
نهاية الفلسفة وبداية النضال التغييري
لا ريب في أن فكر ماركس يناقض التنظير الفلسفي المحض، إذ يصر على صدارة العمل الواقعي الفعلي التغييري الثوري. جميع هذه العبارات ينطوي عليها اصطلاح البراكسيس (praxis) المشهور الذي غدا شعار ثوار الأرض. الحقيقة أن ماركس عاين اختتام الفلسفة كلها، النظرية والعملية، في أنظومة هيغل الضخمة، فأعلن أن فيلسوف الجدلية هذا هو الفيلسوف الكامل الفذ الذي استطاع أن يضبط حركة الفكر ويبلغ بها ذروة تجلياتها التاريخية. لم يترك لنا هيغل سوى مهمة واحدة: أن نتخلى عن البناء النظري الذي اكتمل في أنظومته، وأن نعمد إلى تجاوز الفلسفة تجاوزاً يجعلها تتحقق في معترك الواقع التاريخي. على غرار النسخ الارتقائي التطوري (Aufhebung) الذي نادى به هيغل، يجب علينا اليوم أن نتجاوز الجانب التنظيري ونحافظ على الجانب العملي الاختباري، بحيث نخضع الفكر لامتحان الفعل التغييري. ومن ثم، يصح ما قاله ماركس في الأطروحة الحادية عشرة من أطروحاته في فويرباخ: "اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم تفسيراً متنوعاً، ولكن الأمر المطلوب أن نغيره تغييراً".
من الواضح أن العمل التغييري أو المراس الفعلي يصيب الطبيعة والإنسان على حد سواء، وينطوي على طاقة ثورية تعارض وترفض وتبطل وتلغي وتتجاوز ما هو قائم. غير أنه من الضروري أن يستند إلى تصور فكري واضح يعاينه ماركس في العلم الوضعي الذي يضمن للإنسان المعرفة الموثوقة. أما معايير الموثوقية فينبغي استخراجها من معترك الاختبار العملي. كل فكرة لا تصمد أمام التجربة العلمية يجب إسقاطها. جميع النظريات المجردة ينبغي أن تخضع لأحكام التحقق العلمي النقدي المتطلب. وعليه، تضحى الماركسية أشبه بالفلسفة النقدية التي تستند إلى معطيات المعرفة العلمية، فترفض الفلسفة النظرية والأنظومات الميتافيزيائية المجردة. يبلغ النقد الماركسي أيضاً منطقة الوجدان الإنساني الذي يعاني ضروباً شتى من الاستلاب أو الاغتراب التشويهي. علاوة على النقد، يصر ماركس على اعتماد منهجين: المنهج الوضعي المستند إلى النقدية العلمية، والمنهج البراغماتي التجريبي الاختباري التحققي. أما الفرضيتان اللتان يقوم عليهما هذا النقد، فترسم الأولى أن الميتافيزياء جوفاء من جراء صعوبة تجاوز خلاصات المعرفة العلمية الوضعية، وتؤكد الثانية أن التنظير عقيم حين نفصل الفكر عن الفعل الواقعي.
إذا أردنا أن نتقصى المصادر التي استل منها ماركس أفكاره، وجب علينا أن نعود إلى هيغل وجدليته الحيوية وتصوره المقترن بالاستلاب الكياني الناشط في علاقة العبد بالسيد، وإلى فويرباخ ونظريته الأنثروبولوجية التي تقصي الدين وتربطه باختبارات المعنى الإنساني، وإلى الفكر الاشتراكي الفرنسي الذي ناصره إصلاحيون بارزون من أمثال برودون، والاقتصادي الفيلسوف الفرنسي سان-سيمون (1760-1825)، والاقتصادي الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه (1772-1837).
تصويب الجدلية الهيغلية
يعيب ماركس على هيغل ميوله الفكرية المحافظة ومثاليته النظرية، ولكنه يهنئه على اكتشاف الجدلية الحيوية التي ينبغي الحفاظ عليها من دون ربطها بالمثالية، ذلك بأن المنهج الهيغلي سليم، في حين أن المضمون النظري رديء عقيم. يبين لنا هذا التمييز أن ماركس يفصل في الأنظومة عينها بين المنهج والمضمون، فيرسم أن الجدلية لا ترتبط حتماً بالمثالية، إذ إن تطور العلوم كشف للجميع عن أنها ناموس الطبيعة والفكر على حد سواء. ومن ثم، يمكن استثمارها في المادية التي تعلن أن الفكر مرآة الطبيعة، يخضع على غرارها للقانون الجدلي عينه.
يتصور ماركس الجدلية علم القوانين الأعم التي تضبط حركة الطبيعة وتطورها، وحركة الاجتماع الإنساني وتقدمه. أما الفرضية الأساسية التي تقوم عليها، فالقول إن العالم مسار حي معقد من التطور الخلاق الذي يصيب كل الأشياء والكائنات، بيد أن الطبيعة لا تنفصل عن حركتها، بل تتماهى بها تماهياً يجعلها تنتقل من طور إلى آخر بفضل التقابل والتجابه والتعارض بين القوى الحية. الحركة عينها جدلية، إذ لا تني تنتقل من مستوى إلى آخر، من نفي إلى إثبات، ومن إثبات إلى نفي، حتى تحرر التاريخ من كل أصناف الاغتراب المهين. ومن ثم، تعتني الجدلية بالنظر في التناقضات الناشبة في ماهية الأشياء عينها، بحيث يضحى التطور أشبه بصراع الأضداد.