سام كيلي
اختار دونالد ترمب عبارة "حظ" عاثر في إشارته إلى الفلسطينيين من سكان غزة والأهوال التي عاشوها هناك، كما لو أنه يمكن اختزال تاريخ القطاع بكونه سوء تخطيط مدني مؤسف.
وصرح في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "أعتقد حقاً أن قطاع غزة، الذي ظل رمزاً للموت والدمار على امتداد عقود من الزمن ومكاناً سيئاً جداً للسكان المحيطين به ولا سيما بالنسبة إلى القاطنين فيه الذي كان بصراحة منحوساً، إنه سيئ الحظ كثيراً، لقد ظل مكاناً منحوساً لمدة طويلة".
وتابع بقوله إنه يعتقد أن سيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة فكرة سديدة - وإن سكان القطاع البالغ عددهم "1.8 مليون" نسمة يمكن أن ينتقلوا إلى دول لديها "قلوب إنسانية"، فينتهي هذا المسار من "الموت والدمار وسوء الطالع بصراحة".
لا شك في أن هذا الكلام غير أخلاقي للغاية ويرقى - إن تحقق - إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية على شكل تطهير عرقي، ومع ذلك يبدو ترمب الذي يريد أن يضع أميركا في المقام الأول دائماً، مؤمناً بأنه يجب اعتبار آرائه أولوية.
ويتمتع الرئيس الـ47 بعدم اكتراث مثير للتاريخ، فمن منظوره، يغيب عن الصورة أي سياق يمكنه أن يعوق تنفيذ الأفكار "المقدامة". وقد صرح ترمب بأن "الولايات المتحدة ستستولي على قطاع غزة وسنعمل هناك أيضاً. سنتملك المكان".
ويحفل سجل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي خلال الـ30 عاماً الماضية بالفشل المتكرر: إذ يأخذ أولاً شكل مأساة ثم مهزلة تستحيل في النهاية رعباً.
عام 1992، أرسل جورج بوش الأب القوات الأميركية ضمن مهمة دعمتها الأمم المتحدة كي تنهي تجويع الصوماليين بصورة شريرة ومتعمدة من قبل أمراء الحروب الصوماليين. كانت مهمة هدفها نبيل- وقد نجحت.
انتهت المجاعة في الصومال لكن - والأهم - لم تقبل الولايات المتحدة النصيحة في شأن اعتقال زعماء العشائر المسؤولين عن ارتكاب هذه الفظائع مما سمح لهؤلاء بأن يتعلموا كيف يغلبوا الجيوش الأجنبية.
لذلك، عندما طاردت أميركا الجنرال محمد فرح عيديد، فشلت في المهمة التي أعيد تصويرها في فيلم "بلاك هوك داون" Black Hawk Down - ورحلت بعد عام، وقد لقنت درساً.
وعام 2001، بعد أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول)، هاجمت الولايات المتحدة وحلفاؤها في (ناتو) حركة "طالبان" في أفغانستان لتخلص البلاد من الحكومة المتطرفة التي احتضنت أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة".
بعد ذلك، وفي تجاهل لدروس التاريخ ونصيحة الخبراء، قادت الولايات المتحدة مهمة طويلة الأمد لمحاولة تغيير البلد كي يصبح نظاماً ديمقراطياً حديثاً. بعد مرور 20 عاماً، وإراقة كثير من الدماء والموت والفوضى العارمة والعار، فرت الولايات المتحدة وحلفاؤها من كابول وتركت وراءها "طالبان" ممسكة بزمام السلطة.
وفي عام 2003، زعمت الولايات المتحدة - بدعم من المملكة المتحدة في صياغة خليط من الأكاذيب - أن صدام حسين ساند "القاعدة" ويجب إسقاطه بالقوة. عندها، لفت الخبراء في شؤون المنطقة إلى أن هذه الخطوة عبثية وأن خلع صدام سيطلق العنان لخصومات عرقية لا تستطيع أي قوة احتلال احتواءها.
وقد أثمر هذا الغباء المتوقع عقوداً من الفوضى وولادة "داعش" - التي أزهقت أرواحاً لا تحصى - وإرهاباً دولياً.
لن ينجح احتلال الولايات المتحدة لغزة. ستضع هذه الخطوة حياة القوات الأميركية بخطر إذ تضعها في مواجهة مع "حماس" التي لم تهاجم إلى الآن أي أهداف أميركية في حملتها ضد إسرائيل.
يعلمنا التاريخ أن الصراع الشامل الذي اندلع عام 1948 - حين أعلنت دولة إسرائيل استقلالها وشرد أكثر من نصف سكان فلسطين - زعزع لبنان والأردن. لم يرغب الفلسطينيون في البقاء في هاتين الدولتين، بل أرادوا العودة إلى ديارهم.
ويتألف سكان غزة بشكل عام من اللاجئين الذين أفرزتهم تلك الحقبة بعينها. وتستمد "حماس" بعضاً من فكرتها الخيالية بمحو إسرائيل من حلم "حق العودة".
وأفضى هجوم "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 - حين قتل 1200 شخص فيما أسر نحو 250 آخرين - عن مصرع أكثر من 47 ألف فلسطيني (وفقاً لمسؤولي الصحة الفلسطينيين) وقد خلق مزيداً من الكراهية تجاه إسرائيل. ولن يؤدي وضع الأميركيين في موقع مسؤولية عن مستوطنة مقامة على أرض فلسطينية سوى إلى تركيز تلك الكراهية على الأميركيين أيضاً.
كذلك لم تحصل الفظائع التي ارتكبتها "حماس" عام 2023 في فراغ. فمثل "داعش"، كان الهجوم مصمماً بدقة بحيث يثير أقصى رد من إسرائيل، ومن ثم يؤدي إلى تحطيم جهود تطبيع العلاقات بين إسرائيل وباقي دول الشرق الأوسط، بما فيها إيران.
يعتقد ترمب بوجود "دولة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو سبع أو ثمانٍ أو 12" على استعداد لاستقبال 1.8 مليون مواطن غزاوي في الشرق الأوسط. لا أحد غيره يرقى إلى هذه الدرجة من الخبث أو الخطأ.