سامر محمد إسماعيل
ليست المرة الأولى التي ينتصر فيها فن الرقص لحقوق المرأة السورية، فسابقاً قدم عديد من مصممي الرقص مثل هذه التجارب، لكن المخرج حمود شباط آثر في عرضه "إيف" أن يفكر في صيغة مغايرة في معالجة موضوعات مثل الزواج المبكر والاغتصاب الزوجي والتحرش والاستغلال الجنسي، وغيرها من أنواع العنف التي تتعرض لها فتيات وسيدات سوريات سواء في مخيمات اللجوء أو حتى في البيئات المهمشة اجتماعياً. من هنا كان على الكوريغراف السوري الخلاص إلى شكل فني يستوعب كل الموضوعات السابقة، عبر مبارزة كلامية خاضتها بطلة العرض الممثلة مروة الأطرش (إيف)، التي تطل من بين كراسي الجمهور في الصالة المتعددة الاستعمالات في دار الأوبرا السورية، لتوجه كلاماً مليئاً بالنقمة لشخص، لا على التعيين من الحضور.
كلام الممثلة السورية توجهه لرجل كأنما هو الرجال جميعهم، كما أنها تمثل ما يشبه ثورة نسائية عارمة ضد نظرة الرجال للنساء، على أنهن موضوع جنسي صرف، وأنه ليس من رجل في هذا الشرق، يستطيع أن يرى المرأة ككيان حر ومستقل لها، رغباتها وآراؤها ومواقفها المستقلة عن كل ما يحاول الرجال تكريسه في مجتمع ذكوري. هذه المرافعة التي افتتحت بها الأطرش عرض "إيف" (حواء) كانت بمثابة مقدمة لاندلاع رقصات فرقة "أنيما" في أبرز تجاربها المسرحية، فهذه الفرقة تعد امتداداً لتجمعات مسرحية راقصة اضمحلت مع سنوات الحرب، من مثل فرق "رماد" و"إنانا" و"أورنينا" و"ليش" و"تنوين" و"خطوات" وسواها.
أداء شامل
الفنان رعد خلف المؤلف الموسيقي العراقي المقيم في سوريا، قام بتقديم مساحات حرة من اللعب بوضعه لموسيقى العرض الدرامي الراقص. وهذا ما يمكن أخذه بالحسبان في معادلة عروض الأداء الجماعي اليوم في سوريا، التي غالباً ما تعتمد على توليف مختارات موسيقية عالمية لتقديم تجاربها، مما يعوق رغبة مصمم الرقص ويصادر عمله. في "إيف" نحن أمام بنية موسيقية خصبة ومع أنها لم توفر طوال زمن العرض (50 دقيقة) مزاوجة إيقاعية حركية تامة، فإنها أعطت طابعاً متمايزاً عن عروض كثيرة قامت بقرصنة مؤلفات موسيقية لصالح إنجاز أطروحتها الحركية. فالإيقاعات الهادرة من طبول يابانية (التايكو) كانت في ذروات من العرض تخرج الراقص والمتفرج معاً من أجواء "إيف" وتلهب حماسة مجانية وبعيدة عن فحوى مسرحية راقصة تعالج موضوعاً نسائياً بعيداً من قرع طبول، تستخدم عادة في إذكاء حماسة المحاربين وطرد الحشرات والأرواح الشريرة.
أما في مقاطع أخرى من "إيف"، فتمكن خلف من اقتراح تصعيد درامي للرقص، والانتقال به إلى أجواء نفسية عميقة وخاصة. وهذا ما عجز شباط عن مواكبته في تصميمه لكل من المؤدين التسعة "أحمد جودة، جودي العلي، حازم الشعراني، روان الرحية، ميرا عيسى، كارمن علي، دانيال رضوان، مؤيد شاويش، غزل البدر"، إذ بقي الرقص بطابعه العضلي وحضوره كاستعراض براني، مسيطراً على السمة العامة للعرض، في حين نجح شباط في تقديم مماحكة جسدية في لوحات عديدة، لعل أبرزها كانت لوحة الاغتصاب الزوجي، التي غدت بمثابة ذروة ختامية، كان من الممكن أن تشكل قفلة جيدة، لكن شباط عاد وكرر بعدها جملاً راقصة من غير أن يضعها في سياقها الدرامي المناسب.
تجلى هذا الخلل أكثر من مرة في زمن العرض، فبناء اللوحة الراقصة ظل متصاعداً دونما حل، مما جعل أكثر من نهاية لـ"إيف". مرة عبر مشهد الاغتصاب، ومرة عبر خروج الراقصين من باب جانبي في المسرح، ومرة عبر إعادة الممثلة مروة الأطرش لمونولوغها الافتتاحي مع الجمهور. وكل ذلك من دون أن يعرف شباط متى يغلق قوس الرقص، مما جعل العرض ذا نهايات عديدة، ولكن من غير أن ينضوي تحت خاتمة مناسبة.
في المتن الدرامي الراقص لعرض "إيف" يمكن التقاط إشارات سجلها شباط على صعيد الفرجة البصرية، عبر مجموعة من المرايا المحمولة على منصات متحركة (ديكور محمد الزهيري)، التي كانت بمثابة عكازات للحركة، ومدخل أساسي لما يشبه حلبة تصوير فوتوغرافي أرادها (مصمم الإضاءة أوس رستم) تبدو وكأنها لعبة متتاليات ضوئية. مرة عبر تعامل الراقصين مع المرايا، والوقوف في مواجهتها، ومرة عبر الانعكاسات التي وفرتها المرايا الضخمة الأربع في تفتيت الضوء ورشقه. وجعل المرايا بمثابة بؤر لونية لم تخل من المبالغة في استخدام الأصفر والأزرق والأحمر، بسطوعات متباينة على أسطح المرايا، مما أسهم في تشتيت الفرجة على حساب تحقيق ما يشبه مزجاً بين تلك الألوان، ومن دون مرجعيات لسينوغرافيا واضحة المعالم، بل كان التركيز أكثر فأكثر على تقديم الإبهار البصري بعيداً من الحالة النفسية للمؤدي والمؤدية، وبما يخدم المادة الدرامية للحركة.
على مستوى آخر تمكن "إيف" من توجيه رسائل عاجلة عن واقع النساء في سوريا والمنطقة العربية، عبر مشهديات متصاعدة من الممارسات ضد الضحية، ومن أنواع العنف الذي يمارسه مقربون من النساء، بحيث تنوء ضحايا العنف الأسري بممارسات ذكورية تقصي المرأة جسدياً وجنسياً ونفسياً... ومنها سوء المعاملة في المنزل، والإساءات اللفظية الكلامية، وأعمال عدائية جسدية. قدم العرض السوري جملة من الممارسات السابقة ضمن قالب فني راقص معللاً علاقة هذه الممارسات بالأعراف والتقاليد التي باتت تشكل سجناً لا مرئياً لآلاف النساء في العالم العربي.
وقد تبدى ذلك في تجسيد امرأة ورجل يظهران من خلال كادر متخيل لصورة رجل وامرأة يحاولان التملص نحو خارج الكادر، ليبدأ نوع من الصدام بينهما. يحاول الرجل إعادة المرأة إلى كادر الصورة، لكن المرأة تأبى ذلك، وهي تنوء بأحمال عدة، لتعكس حركاتها مقاطع من حياتها في السرير والمطبخ والحمل والولادة والتربية والأعمال المنزلية. وقدم عرض "إيف" مشاهد ارتطامها اللامرئي، وهربها من قيدها الأسري، الذي يقابله الرجل برغبة في التملك والاستحواذ بشكل عنيف، وبزجر وأوامر عكسها جسد الراقص الشريك على الخشبة.
عالج عرض "إيف" قضية "زواج الأطفال" أو ما يسمى "الزواج المبكر" مع معالجته حالات الاغتصاب الزوجي، والتحرش الجنسي، والاعتداءات الجنسية الفردية منها والجماعية. كل ذلك عبر لوحات رمزية تبدت فيها ليونة الراقص وفصاحة الجسد في التعبير عن أفكار لا يزال المسرح التقليدي عاجزاً عن التصدي لها أو تناولها بالجرأة الفنية الكافية. ومنها التحرش الجنسي عبر شبكة الإنترنت عبر إرسال تعليقات وصور وفيديوهات غير مرغوبة ومسيئة أو حتى عبر رسائل نصية ومكالمات هاتفية تحمل تهديدات للنساء والفتيات أو دعوة للتعري بغية الابتزاز والتنمر على الضحية.