مشروع لصناعة البطالة
19-شباط-2023
أحمد حسين
بدأت خطوات المضي بمشروع قطار بغداد المعلق منذ العام 2013 أي قبل قرابة عشر سنوات، وتعاقبت عليه خمس حكومات، ولله الحمد لم يتم تنفيذه لأسباب لا يعرفها إلا الراسخون في الفساد. يكاد يكون هذا المشروع من أغبى المشاريع التي تم طرحها في العراق، والتمسك به يدلّ على أن المسؤولين العراقيين ينتقون المشاريع بمزاجية ولغرض التشبه ببلدان إقليمية وغير إقليمية ونقل تجاربها إلينا من دون دراسة ولا تفكير، فقط لمجرد أن يتفاخروا بأنهم نفذوا مشروعاً مشابهاً لما هو موجود في دول متقدمة ليس إلا. حين تم طرح مشروع القطار المعلق كانت الذريعة أن الهدف منه تخفيف الاختناقات المرورية في العاصمة بغداد، وهذا عذر مضحك حقيقة فالشوارع مكتظة بالسيارات الخاصة أكثر من سيارات الأجرة، والعراقيون ما زالوا لم يهضموا ثقافة التخلي عن سياراتهم الشخصية واختيار وسائل النقل العام، وذلك لأسباب موضوعية في مقدمتها السعر المخفض أو غير المرتفع للوقود في العراق على عكس الدول التي يفضّل مواطنوها وسائل النقل العام على سياراتهم الكلفة الباهظة للوقود، وسبب آخر أساسي وهو أن سيارات الأجرة المتوسطة والكبيرة (الكيا، الكوستر) لا تلتزم بمواعيد انطلاق محددة وتلتقط كل من يرفع يده في الشارع، مما يجعل الوصول إلى محل العمل يستغرق وقتاً أطول بكثير مما يستغرقه التنقل بالسيارة الشخصية.
هذا من جانب الثقافة الشعبية، ولا أقصد بذلك المفاضلة بين الشعوب الأخرى والعراقيين بل ذكرت هذا كمثال واقعي، أما من جانب دراسة الجدوى العملية، فالسكك التي يجب نصبها لحمل القطار المعلق قد تتسبب بخسائر مادية ربما في بعض المناطق لا يمكن إصلاحها، فعلى سبيل المثال المرحلة الأولى من المشروع تبدأ من منطقة الشعب مروراً بالأعظمية وصولاً إلى الكاظمية وهذه المناطق الثلاث تعاني من تدهور في البنى التحتية وبالنسبة للأعظمية والكاظمية فهي مدن عمرها تجاوز الألف عام وشبكات الماء والصرف الصحي فيهما متهالكة ولا تحتمل أي أحمال إضافية فكيف الحال إذا كانت هذه الأحمال ليست فقط ثقيلة جداً بل أنها تولد اهتزازات؟.
وبالنظر إلى المرحلة الأولى من المشروع يبدو أنه لن يسهم بشكل فاعل في فك الاختناقات لكون خط النقل هذا يكاد يقتصر على الزيارات الدينية والتي هي بطبيعة الحال ليست يومية بل أسبوعية، بالتالي أي اختناقات سيفكها؟.
وإذا ما افترضنا أنه سيحل جانباً من المشكلة المرورية يحق لنا أن نتساءل أيهما أولى، خط نقل جانبي أو ثانوي، أم شريان حياة يتوسط بغداد ويضم أهم وأكبر أسواقها التجارية والصناعية ومركز الكليات والجامعات، ألا وهو شارع الجمهورية الذي يبدأ من منطقة الباب المعظم وصولاً إلى الباب الشرقي قلب العاصمة، وهو شارع اشتهر بشدة اختناقاته المرورية منذ ثمانينيات القرن الماضي حين كان عدد السيارات في العراق أجمع لا يتجاوز 20 ألف سيارة ولم تكن هناك شوارع ومناطق مقطوعة ومغلقة، فكيف الحال الآن وفي بغداد لوحدها ربما أكثر من مليونيّ سيارة؟.
ومن ناحية الجدوى الاقتصادية فهذا المشروع مصيبة اقتصادية إن جاز الوصف، فهو بالإضافة إلى كلفته الباهظة وغير المألوفة والبالغة مليار ونصف المليار دولار في مرحلته الأولى وسبعة مليارات دولار في مرحلته النهائية، إلى جانب هذه الكلفة فهو سيتسبب بأزمة بطالة لسائقي سيارات الأجرة -في حال نجاحه-، لكن يبدو أن المسؤولين العراقيين لا يعنيهم الأمر أو ربما أخذتهم "البهرجة" والاسم الرنان للمشروع والتشبه بالدول الأخرى ولم يروا واقع حال مواطنيهم وما الذي يمكن أن تتسبب به مشاريعهم المتسرعة وغير المجدية وغير الواقعية؟.
وفي عذر أكثر إضحاكاً قال وزير النقل الأسبق عبد الله لعيبي في حكومة السيد عادل عبد المهدي، إن مشروع القطار المعلق سيوفر 10 آلاف فرصة عمل، ولا أدري من أين جاء بهذا الرقم الفلكي، فالمعروف على مستوى العالم أن مشاريع النقل السككي هي الأقل في عدد الموظفين والعمال، إذ لا تحتاج إلا لموظفي قطع التذاكر وإذا ما افترضنا تعيين 10 موظفين في كل وجبة دوام -8 ساعات عمل- سيكون مجموع موظفي القطع 30 موظفاً على مدار اليوم، أضف لهم سائقاً للقطار ومساعداً له أيضاً لثلاث وجبات فلدينا 6 موظفين أضف لهم 10 عمال نظافة على ثلاث وجبات، يصبح المجموع 66 موظفاً، أضف لهم 44 للصيانة والإدامة -هذا العدد مكرمة منيّ- يكون مجموع الموظفين والعاملين 100 شخص فقط لا غير، فأين بقيت 9900 موظف وعامل؟.
قطار بغداد المعلق يدل بما لا يقبل الشك أن اقتراح المشاريع في بلدي لا يتم من قبل المختصين بل من قبل مسؤول يقضي ليلة حمراء في بلد ما ويعود في اليوم التالي إلى العراق ويقترح المشاريع وهو لم يصحو بعد من ثمالته الحمراء، قدم المشاريع وليس في رأسه سوى النهب و"مال تالي الليل".