محمد عبد الجبار الشبوط
لا يمكن تجاهل معاوية بن ابي سفيان عند الحديث عن التاريخ الاسلامي. ولا يمكن الحديث عن معاوية بوضوح دون التحرر من النزعة التبجيلية والهالة التقديسية في دراسة التاريخ الاسلامي. واذا كانت مرحلة الخلفاء الراشدين تمثل انعطافة كمية عن الدولة الاسلامية التي انشأها الرسول في المدينة، فان معاوية بن ابي سفيان اسقط هذه الدولة، واقام اول دولة عربية علمانية بعد ظهور الاسلام.
يُعدُّ معاوية بن أبي سفيان أحد الشخصيات الأكثر جدلاً في التاريخ الإسلامي. فبينما يعتبره البعض أحد القادة الذين ساهموا في توسيع الدولة الإسلامية وتثبيت أركانها، يرى آخرون في سياساته بداية التحول في طبيعة الدولة الإسلامية نحو نموذج يتسم بالعلمانية، بعيدا عن المفاهيم التي كانت سائدة في عهد الخلفاء الراشدين. لذا، من المهم أن يتم دراسة دوره في التاريخ الإسلامي بعيداً عن الهالة التقديسية التي أحاطت به، والنظر إلى الأبعاد السياسية والاجتماعية التي شكلت دوره في انتقال الدولة الإسلامية من مرحلة الخلافة إلى مرحلة الدولة الأموية.
1. معاوية: بين التقديس والنقد
إن الفكرة الشائعة التي تروج لشخصية معاوية تتسم عادةً بالانحياز أو التقديس الشديد، فمعاوية بن أبي سفيان كان أول خليفة من خلفاء الدولة الأموية، وهو شخصية مثيرة للجدل نتيجة لسياساته المتنوعة وطبيعة الدولة التي أسسها. في معظم الأحيان، يصعب الحديث عن معاوية دون أن يتداخل تقدير وتبجيل الشخصية التاريخية مع الآراء المتباينة حول ما قدّمته هذه المرحلة التاريخية للمجتمع الإسلامي. لكن، من الضروري أن نحرر دراسة معاوية بن أبي سفيان من هذه النزعة التبجيلية المفرطة، وأن ننظر إليه باعتباره شخصية تاريخية تتسم بالتحولات السياسية العميقة التي أحدثت آثارًا بعيدة المدى على تاريخ الدولة الإسلامية.
2. المرحلة الانتقالية من الخلافة إلى الملك:
في الفترة التي تلت وفاة الخليفة عثمان بن عفان، أصبح معاوية أحد أبرز الشخصيات في الصراع الذي نشأ بينه وبين الامام علي بن أبي طالب بعد مقتل الخليفة عثمان. إن النزاع الذي دام طوال فترة الخلافة بين الطرفين – ما يُعرف بفتنة مقتل عثمان – كان له تأثيرات عميقة على النظام السياسي والاجتماعي في الأمة الإسلامية. بمعركة صفين، التي انتهت بتعليق المصاحف على الرماح، بدأ معاوية في تأكيد مكانته كحاكم قادر على إدارة الدولة بطريقة إدارية وعسكرية تركز على تأمين الاستقرار. ومع انتقاله إلى الخلافة بعد مقتل علي بن أبي طالب، تمكّن معاوية من فرض سيطرته على الأمة الإسلامية من خلال تبني أسلوب سياسي يجمع بين القوة العسكرية والمساومات السياسية.
ومع تولي معاوية الخلافة في 661م، نجد أنه بدأ يتخذ خطوات لتأسيس الدولة الأموية التي كانت تُعتبر تطورًا طبيعيًا لنظام سياسي يختلف تمامًا عن مفهوم "الخلافة" كما كان يُفهم في عهد الخلفاء الراشدين. إذا كانت الخلافة في عهد الرسول وصحبه تعتمد على الشورى و الدمج بين الدين والدولة، في حين أصبح الحكم في عصر معاوية يشبه أكثر نظامًا ملكيًا يعتمد على الوراثة والتوريث. من خلال تغيير أسس الخلافة وجعلها وراثية، وضع معاوية الأساس لمفهوم الحكم الأموي الذي يتسم بالتحكم السياسي المركزي.
3. دور معاوية في تأسيس أول دولة إسلامية-عربية علمانية:
من الممكن القول إن معاوية بن أبي سفيان أسس "أول دولة إسلامية-عربية علمانية" بعد ظهور الإسلام. هذا ليس من حيث الإيمان بالدين الإسلامي، بل من حيث الطابع الإداري والسياسي الذي تميزت به الدولة الأموية. على الرغم من أن الإسلام كان الدين الرسمي للسلطة، إلا أن معاوية و خلفاءه بدأوا بتطبيق مفاهيم سياسية وممارسات إدارية تبتعد عن الأسس الدينية الصرفة التي كان يعهدها المجتمع المسلم في عهد الخليفة الأول أبي بكر وعمر وعثمان.
لقد تبنى معاوية مفهوما جديدا للعلاقة بين الدين والسلطة السياسية بطرق مشابهة لتلك التي استخدمها الحكام البيزنطيون والفارسيون، حيث استمر في استغلال الخلافة باعتبارها مؤسسة ملكية تركز على استقرار الدولة وتنظيم الشؤون العامة، بعيدًا عن الدلالات الدينية أو التوجهات الروحية. وقد تميزت فترات حكمه بتوسيع الأراضي التي تشمل أقاليم متعددة، وعزز سلطته السياسية من خلال جيوش موحدة وآليات مركزية للحكم.
4. إسقاط دولة المدينة:
إذا كان الحديث عن الفترة التي سبقت معاوية يعبر عن الدولة الإسلامية التي أسسها النبي محمد في المدينة فإن معاوية بن أبي سفيان عمل على إسقاط هذه الدولة كما في الصورة الكلاسيكية عنها، من خلال تعزيز الوراثة في الخ…