د. جليل وادي
لا أتحدثُ عن نفسي، فقد رزقني الله ما يكفيني، ويغنيني عن الحاجة للناس، وليس مدحا ان قلتُ: أنا قنوع بطبعي أُرتب أمري على ما أحصل عليه ان كان كثيرا او قليلا، وأدرب نفسي على نبذ الطمع، فهو من الخصال الذميمة، ويقود صاحبه الى الغش والاحتيال والظلم، ولا أريد أن أكون هكذا، فتمام الشخصية في القناعة والصدق والأمانة، فالرزاق قدر لك ما تستحق، فكن قنوعا بما قسمه لك، وقبل يدك ثلاثا وضعها على جبهتك. لست مثاليا، ولكن هكذا علمتني الحياة، فهي ثرية بدروسها، واللبيب من يتعلم مبكرا، فقد نصحنا الماضون بالاعتبار منها، لكن أغلبنا وضعها خلف الظهر وليس قبالة العين.
في بلادنا الثراء مشكلة والفقر مشكلة، حدثنّي صاحبي عن ثري ليس بمقدوره النوم ابدا ان لم يبتلع حبوب منومة، فهل للثراء قيمة ان لم تنم ملء الأجفان، ولن تلتذ بطعم النوم ان لم تنعم براحة البال، ولا راحة للبال بدون قناعة كافية وضمير مستريح، واستراحة الضمير في العطاء وليس في الأخذ، فكن معطاء حتى بما عندك من قليل، ففيه سعادة لا يوفرها لك المالُ .
وأعرفُ ثريا لا ينام في بيته الا خلسة خشية تعرضه للخطف، فيتنقل من بيت الى آخر، وتتعذر مقابلته اذا كانت لديك عنده حاجة، فلا يعرف المقربون مكان وجوده . هكذا هو حال الأثرياء، لذلك تندر العرب بقولهم: (المفلس في القافلة أمين). وكيف لثري الاستمتاع بحياته الشخصية والتجوال بحرية مع عائلته في الأماكن العامة، بينما يحيط حمايته به، وينظرون لكل حركاته وسكناته، وهذه واحدة من معاناة الأثرياء من المشاهير .
لا تغرّنك ابتساماتهم العريضة، فخلفها حسرات تكتظ بها الصدور، ولا تحسدونهم على شراء اللذيذ من الطعام، فبعض الذي يشترونه قد لا يكون بمقدورهم تناوله، فما البهجة بقصور فارهة على شطآن خلابة وأنوار ساحرة، بينما يتحسرون على عنقود عنب وكسرة خبز أبيض وقطعة حلوى ؟، فمَنْ عافاك أغناك .
وصدقوني وهذا أيضا من خلاصة دروسي ان الصحة في موائد الفقراء وليس في سفرات الأثرياء، وانها (أي الصحة) في حياة الفلاح أكثر من أية مهنة أخرى، لا يعني هذا الاستسلام للفقر، وعدم مبارزته للتحرر من أغلاله. ومع ان الفقر ليس عيبا، لكن الخنوع له هو العيب بعينه، ولكسر الأطواق يحتاج الفقراء الى مَنْ يمكنّهم للتحرر من واقعهم، فكثيرا ما تكون سلاسله أقوى من قدراتهم. ولذلك وددت الحديث في هذا المقال عن جانب من معاناتهم .
لقد أدرك العالم حقيقة تضرر الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة من جشع المسيطرين على السوق، ورداءة السلع والخدمات المقدمة لهم، فسُنت الكثير من القوانين كقانون حماية المستهلكين، وحذونا حذوهم وشرّعنا هذا القانون المهم، لكنه ظل حبرا على ورق يعلوه الغبار على الرفوف، فلم نر او نسمع عن فعل حقيقي للجهات المعنية بالقانون انها وفرت حماية للمستهلكين، بالمقابل نشاهد من غلبَ الطمعُ على نفوسهم يمعنون في اذلال الفقراء، بل ووصل الأمر في بعض الأحيان الى القبول بموتهم، وذلك بحرمانهم مثلا من الدواء الذي صار أصحاب الصيدليات يبيعونه بأسعار لا يستوعبها عقل دون مراقبة من المعنيين بالصحة ، بينما تنبري النقابات للدفاع عن الأطباء والصيادلة في حال تعرضهم لحالات غير مقبولة.
ولا يقتصر الأمر على هذه الشريحة، بل جميع أسواقنا يتعرض فيها المستهلكون للاستغلال والاحتيال، بدءا من باعة الفواكه والخضر وصولا لشركات الهاتف النقال، فما قيمة قوانين نشّرعها، ولا تجد تطبيقا لها في الواقع؟، وليفهم ولاة الأمر أن تحسين أحوال الناس ليس بالضرورة في زيادة مدخولاتهم، بل في ضبط السوق واستقراره، فالسوق يبتلع هذه الزيادات دون أن ينتفع منها المستهلكون، وهنا نسألهم مَنْ يحمينا؟