حسين فوزي
في زيارتي لشبه جزيرة القرم عام 2012، بالأخص مدينة سفاستوبول، مقر اسطول البحر الأسود الروسي، كانت رايات روسيا الاتحادية والاتحاد السوفيتي السابق وجمهورية أوكرانيا الاشتراكية وراية اسطول البحر الأسود السوفيتي هي المرفوعة في ارجاء المدينة، دون أي إثر لعلم أوكرانيا في مناطق شعبية واسعة.
شهدت العلاقات الثنائية بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا تداعيات منذ "الثورة البرتقالية" عام 2004 المعادية لروسيا، وتنصيب يوليا تيموشينكو رئيسة للوزراء قرابة السنتين، وتولتها ثانية حتى 4 أذار 2010، ساعية إلى توثيق العلاقات مع الغرب والانتماء للناتو على حساب العلاقات "التاريخية" مع موسكو، ما اودى بها إلى السجن بتهم "فساد" عام 2011، بعد انتخاب فيكتور يانوكوفيتش صديق روسيا عام 2010 حتى الانقلاب عليه عام 2014 بدعم المخابرات الغربية، فعاد التوتر يتصاعد، والهجمات في دونباس على الروس في نيسان 2014، فسعت روسيا إلى حماية الروس في القرم، وتشجيع إنشاء جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين، ثم قرار "العملية العسكرية المحدودة" للرئيس بوتين في 2022 "دفاعاً عن المواطنين الروس في شبه جزيرة القرم من قتل النازيين الجدد،"، واخيراً قبول التحاق القرم بالاتحاد الروسي .
والواضح أن النزاع المسلح بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا محكوم مسبقاً بغلبة كفة موسكو، بحكم عوامل متعددة، ضمنها التعاطف الخاص لمواطني القرم، بجانب العوامل الاستراتيجية لقدرات كل من الطرفين، خطوط المواصلات وسبل الدعم التكتيكي، بغض النظر عن حجم دعم الناتو لزيلينسكي، الذي صعد للرئاسة بوعد معالجة الازمة مع موسكو سلمياً، ثم بروزه على المسرح داعية للمواجهة العسكرية بعد أن كان ممثلاً هزلياً يرفه الاوكرانيين وليس قيادتهم إلى الخراب والمذابح. وليس بالسر العسكري أن الناتو وواشنطن يستخدمان القوات المسلحة الأوكرانية وزيلينسكي اهدافاً لأستقصاء حجم قدرات تسليح القوات المسلحة الروسية وكفاءتها ، تماماً كما لجأت مثلاً في محافظة الانبار، بالأخص الفلوجة، لاستمكان المقاومة بمناوشات ثم استهدافها بالمدفعية والطيران "الجراحي الدقيق المزعوم"، لكن الخطة في "مسرح" القرم أكبر وأخطر. ولان فشل هجمة الربيع التي راهن عليها زيلينسكي وحلفاؤه كثيراً في تحقيق اختراق مهم يجبر موسكو على القبول بصفقة اقل من ضم القرم، وتصاعد أصوات، جاء اعلاها ترامب في رفض استمرار انفاق المليارات على مقاتلة الروس الذين "دحروا نابليون وهتلر واحتلوا برلين" على حد تعبيره، زج زيلينسكي في مسرح اطراف كورسك وحدات نخبة مجهزة بأحدث أسلحة الناتو ليسيطر على 10 الاف كيلو متر مربع، ضمن إرشادات استخبارية غربية، مستفيداً من غطاء الغابات على امل التعويض عن غياب الغطاء الجوي، فيما بدأت وسائل الاحتواء والاقصاء الروسي في استهداف المدرعات الألمانية وبقية الأسلحة، وتشير التقارير إلى ان الخسائر الأولية الأوكرانية تزيد على 2500 قتيل من اصل قرابة 12000 مهاجم من قوات النخبة، في مسرح عمليات لا قيمة استراتيجية له، لكنه محاولة إعلامية لتأكيد أن زيلينيسكي يواصل القتال لتبرير مطالبته بالمزيد من مساعدات الناتو. في ظل حقيقة ان هجمة كورسك بعيدة عن الوصول إلى محطة الطاقة النووية، فهي مجرد زوبعة دعائية لكنها انتحارية عبثية، لن يغير من حقيقتها حجم التغطية الإعلامية الغربية ونفخها. تماماً مثلما كانت تغطية تمرد قوات فاغنر والزعم أن الطريق مفتوح امامها لتغيير السلطة في موسكو.
والمؤكد ان قيادة ميدان كورسك المدعومة مباشرة من بوتين بشخص مساعده، الكسي ديومين صاحب نظرية متكاملة للدفاع عن سيادة الاتحاد الروسي وامنه الوطني، وحجم الاحتياط التتري وبقية مواطني الاتحاد الروسي، باندفاعتهم السريعة لصد هجمة الاوكران، واستهداف معداتهم الثقيلة وارجاعهم للخلف ضمن خطة تطويق وإبادة أو الاستسلام، تؤشر ان حجم الخسائر الأوكرانية التي يقول ترامب انها تزيد على 500000 بين قتيل وجريح بجانب خسائر مادية تزيد على 500 مليار دولار، منذ بدء الحرب عام 22، يعني أن زيلينسكي لم تبق لديه الكثير من الفرص للتشبث بما دعاه "إرغام بوتين على التفاوض من موقع اوكراني قوي.."، فيما تعاني أوربا الغربية من أعباء هذه الحرب، ويتوعد ترامب بإنهائها فور استعادته الرئاسة.
والشيء المؤكد ان التاريخ سيسجل زيلينسكي ممثلاً هزلياً ناجحاً حد ائتمان الناخبين له ليكون "خادم الشعب"، لكنه قادهم إلى مواجهة مع الدب الذي قد يظن البعض انه بطيء لكنه ثابت في خطواته حد تصفية هجمة عبأ لها زيلينسكي اكثر من 12 الف مقاتل بأحدث الأسلحة، وهو مصير لن تغامر لا واشنطن ولا برلين ولا جمهوريات البلطيق وبولندا في اية محاولة لتغييره، لأن بوتين كان واضحاً في أن "السلاح النووي الروسي يدخل المعركة في حالة تهديد سلامة أراضي الاتحاد الروسي ومواطنيه .."، علماً ان اجمالي الناتج القومي الاوكراني انخفض بنسبة تزيد على 29%، وهجرة قرابة 19 الف شركة، فيما تمكن الروس من تحقيق زيادة ملحوظة في ناتجهم، بغض النظر عن قيمة الروبل مقابل الدولار، بفعل مناورتهم من خلال شنغهاي وبريكس وشراكات جديدة، ضمنها تركيا وإيران والهند والبرازيل والأرجنتين، بجانب الصين وكوريا الشمالية.
تعدد الأقطاب فرصة لكسر العولمة الاحتكارية
فهل يتجه العالم نحو الحرب العالمية الثالثة نووياً أم أن الغرب يدرك ان موسكو تمتلك ناصية ما يعيدها شريكاً معظماً في مواجهة القطب الأميركي، بدعم من بريكس اقتصادياً، دعم بعضه ضمن المجال الجغرافي الحيوي في الاميركتين، وعسكرياً من بكين وبيونغ يونغ، وإن عقيدة جيراسيموف رئيس اركان القوات المسلحة للاتحاد الروسي التي صاغها بإشراف بوتين.