نجومية باستر كيتون تطرح السؤال: من هو أعظم الكوميديين؟
12-تشرين الأول-2023
إبراهيم العريس
في واحدة من أجمل لقطات فيلم "أضواء المسرح" لتشارلي شابلن، ثمة مشهد يحمل لقطة لم تكن متوقعة على الإطلاق: لقطة يؤدي دوراً فيها واحد من كبار فناني الكوميديا الأميركية من الذين كانوا قبل ذلك يعتبرون من مؤسسي هذا الفن في هوليوود وأتى شابلن ذات يوم لينافسهم ويحل في المكان الأول بينهم، تماماً كما كان بيكاسو على سبيل المثال، وفي الوقت نفسه تقريباً، ولكن في مجال آخر بالطبع، فظهر في عالم الرسم ليحل في المكان الأول حتى بين كبار الراسخين في هذا المجال. يومها بالكاد كان يمكن لأحد أن يصدق أن صاحب الوجه الشاحب العجوز في غرفة الماكياج في أحد مشاهد الفيلم "أضواء المسرح"، يمكن أن يكون باستر كيتون، الهزلي الهوليوودي الكبير الذي وصل إلى شهرة كبيرة خلال الثلث الأول من القرن العشرين، قبل أن يغيب عن الساحة بشكل شبه تام. الحزن كان يطبع وجه كيتون في ذلك المشهد، وكان يبدو عليه أنه يعيش لحظة وداع حاسمة في تاريخه. ولكن ما الذي كان يفكر به في تلك اللحظة وهو يحدق بتشارلي شابلن بتلك النظرة الغريبة المبتعدة؟
ظلم أنهى حياة ومساراً
على الأرجح كان يفكر بالظلم الذي لحق به. فهو، في ذلك الوقت، كان لا يزال يعيش منطفئاً، شبه منسي، بعد مجد كبير، في وقت سرق فيه "شارلو" كل الأضواء. فشارلو اعتبر ومنذ البداية أكبر فنان هزلي في تاريخ السينما، ما ترتب عليه أن يبتعد الآخرون جميعاً إلى الصفوف الثانية، وكان من بينهم باستر كيتون بالطبع. ولكن حين كان كيتون يمثل ويخرج أفلامه الكبيرة غير ناس بين الحين والآخر أن يطل على فن السينما نفسه مدخلاً مواضيعه وشخصياته في أفلامه عبر تجديد رائع جعل تلك المواضيع منذ ذلك الحين عنصراً أساسياً في الفرجة السينمائية، كان من الصعب على أحد أن يتوقع له ذلك الانطفاء الذي سيطاوله في وقت واحد على أية حال مع ظهور السينما الناطقة الذي كان من نتائجه أفول عالم سينمائي كامل كان كيتون من رواده الكبار. صحيح أن الأفول نفسه الذي دمر مسيرة كبار الهزليين المعتادين على أفلام السينما الصامتة التي كانت تعطي المكان للأداء الجسدي، إلى درجة أنها فضحت لغة الكلام وبينت كم أنها تضر بالأداء الصامت المتحدر بشكل خاص من فن الإيماء، هذا الأفول نفسه أرعب عند نهاية سنوات الثلاثين، حتى فناناً بالغ الحيلة مثل شابلن وغيره من كبار نجوم السينما الصامتة – وهو ما سيجعله مخرجاً فرنسياً حاذقاً عند بدايات القرن الحادي والعشرين موضوعاً لفيلم "الفنان" الذي تمكن من الحصول على السعفة الذهبية في مهرجان "كان"-، لكن المأساة كانت أفدح بالتحديد على باستر كيتون.
سينما النظرة والتعبير الجسدي
ولعل من المناسب هنا في سياق هذا الحديث أن نعود إلى سمة أساسية من سمات سينما كيتون الرائعة الصامتة وذلك عبر فيلميه الكبيرين، "شرلوك الصغير" الذي نوّع فيه على حكاية التحري الإنجليزي الشهير شرلوك هولمز، من خلال حكاية عارض أفلام يعيش في خياله كما في حياته اليومية حياة هولمز إلى درجة الاندماج والتمازج به، ولكن بخاصة من خلال فيلم "الكاميرامان" الذي يعتبر عادة من أعظم أفلام كيتون ناهيك عن اعتباره واحداً من أول الأفلام التي تقترب من موضوع السينما من ناحية كونه أجمل فيلم هوليوودي تناول هذا الموضوع وواحداً من أفلام هذا النوع. ويدور "الكاميرامان" في موضوعه البسيط على أية حال، في صلب عالم السينما الهوليوودية حيث يطالعنا كيتون وهو يعمل مصوراً فوتوغرافياً بكل بساطة حياة مصور عادي يحدث له يوماً وقد بدأ الإنتاج السينمائي يغري أصحاب مهن كثيرة ومنهم المصورون بالانخراط فيه وهكذا يتحول صاحبنا إلى مصور سينمائي يسعى للانضمام إلى العمل في الفن السابع في شركة "مترو غولدوين ماير" التي تقبل به للعمل معها، يبدو أنها تبعده على الفور عن مهنته الأساسية مسببة له توتراً غير متوقع. لكن غرامه بسكرتيرة حسناء تعمل في الشركة يخفف الوطء عنه... لولا وجد مصوراً آخر في الشركة نفسها يحاول مغازلة الفتاة، دارسي. مهما يكن فإن هذه تفضل كيتون على رغم إلحاح الآخر. ويدور بين الرجلين نوع من صراع يتمحور حول التنافس في العمل والحياة والغرام.
من الأعظم؟
وبعد سلسلة مغامرات وألاعيب يدور أفضلها في تشاينا تاون النيويوركية، سيفوز كيتون، كما الحال دائماً، بحب الفتاة بعد إنقاذها من الغرق، وبعد أن يجهض محاولات غريمه هارولد. ما يجعل للفيلم نهاية سعيدة. بيد أن الأهم من ذلك أنه يأخذ بيد المتفرجين إلى داخل عالم السينما وكواليسها ما سجل لكيتون علامة أساسية كممثل ولكن أيضا كمشارك في الإخراج، ومكنه من البروز كواحد من كبار المجددين، وبالتالي من متابعة مساره بنجاح على رغم أن الزمن كان للسينما الناطقة التي سرعان ما تغلبت، لينطوي الفنان على أحزانه وعزلته. بعد ذلك، بزمن طويل، وتحديداً خلال الأعوام الأخيرة من حياة باستر كيتون، الذي رحل في عام 1966، عادت الأمور وتبدلت، واستعاد كيتون بعض مجده ولو بشكل متأخر، وذلك حين بدأ سجال كبير يدور في أوساط نقاد السينما ومؤرخيها ويتمحور من حول سؤال أساسي: من هو الأعظم يا ترى، تشارلي شابلن أم باستر كيتون؟ وكان مجرد طرح السؤال يحمل إعادة اعتبار لذاك الذي سينكب الباحثون منذ ذلك الحين على إعادة دراسة أفلامه وشخصيته، ليكتشفوا أنه لا يقل أهمية عن شابلن، إن لم يكن قد فاقه أهمية في بعض المجالات. واكتشفوا أن باستر كيتون، على رغم ضعف ثقافته، وعلى رغم عمله خلال فترة محدودة من الوقت، قدم أدواراً متميزة، عبر فيها بالحركة - خلال السينما الصامتة بالطبع - ولكن كذلك بالنظرة. ولعل مجال "النظرة" هو المجال الذي تجلت فيه عبقرية كيتون الأدائية أكثر من أي مجال آخر. وحسبنا اليوم أن نستعيد في أذهاننا المشهد الذي جمع باستر كيتون بتشارلي شابلن في "أضواء المسرح" حتى نلاحظ كم أن نظرة كيتون طغت على المشهد، وكم أنه كان متفوقاً فيها حتى على شابلن الكبير.
دور الساحر هوديني
مثل معظم هزليي بدايات السينما، أتى باستر كيتون من مسرح المنوعات الذي كان في ذلك الحين يمتزج بفنون السيرك واستعراضاته. وكان الساحر الشهير هوديني من قاده إلى فن السينما، وكان هوديني قد تعرف إليه ممثلاً، وهو بعد في الثالثة من عمره. وباستر كان في الثانية والعشرين، عام 1917، حين انضم إلى فرقة فاتي أربوكل ليمثل أول دور سينمائي له في فيلم "صبي الجزار" فتبدى، من فوره متجاوزاً المعلم فاتي الذي ظل يعمل معه سنوات أخرى قبل أن ينفرد، في 1920، بلعب دور البطولة في فيلم اقتبس عن ميلودراما هوليوودية. وهو منذ ذلك الحين لم يكف عن العمل طوال ما تبقى من فترة السينما الصامتة، ممثلاً ومخرجاً في الوقت نفسه. ولئن كان شابلن قد اعتمد التأثير الدرامي والعاطفي في أفلامه، فإن ما تميز به كيتون إنما هو الوجه الشاحب الجامد الذي يجيد بالتعبير بالنظرة. وهذا ما أتاح له أن يلعب أدواراً عدة متنوعة، فنراه حيناً طيباً وحيناً شريراً، وحيناً عاشقاً وحيناً لعيناً، ولكن دائماً عبر السحنة نفسها التي لا يتغير فيها ألا توجه نظرته.
مشكلات عائلية
منذ 1923 انصرف كيتون للتمثيل في أفلام طويلة يخرجها بنفسه أو يشارك في إخراجها، ومنها ما يعتبر اليوم روائع في تاريخ فن السينما مثل "العصور الثلاثة" و"ضيافتنا" وصولاً إلى "الجنرال" و"شرلوك الصغير" الذي يعتبر تحفة فنية حيث نرى كيتون وهو يقارب، في موضوع الفيلم نفسه، عالم الفيلم عن الفيلم باكراً معطياً لدوره دوراً لا ينسى، دور عارض الأفلام الذي يتخيل نفسه يمثل في الأفلام التي يعرضها، لا سيما دور التحري الشهير. من أفلام كيتون الرائعة الأخرى إلى جانب هذا الفيلم و"الكاميرمان" طبعاً الذي يبقى أقوى أفلامه وأنجحها، "البحار" و"سبع فرص". غير أن هذه الأفلام كلها تنتمي إلى سنوات العشرين، لأن كيتون من بعدها، ومن بعد وصول السينما الناطقة، انطفأ كما أشرنا، وتواكب ذلك مع مشكلات عائلية قادته إلى الإدمان الذي دمر حياته وجعله نسياً منسياً، حتى أتت الستينيات لتعيد له اعتباره، عشية رحيله. غير أن هذه الأفلام كلها تنتمي إلى سنوات العشرين، لأن كيتون من بعدها، ومن بعد وصول السينما الناطقة، انطفأ كما أشرنا، وتواكب ذلك مع مشكلات عائلية قادته إلى الإدمان الذي دمر حياته وجعله نسياً منسياً، حتى أتت الستينيات لتعيد له اعتباره، عشية رحيله.