نظرة السوفياتي إيليا إهرنبورغ الغاضبة على 50 سنة من أكاذيب تاريخ بلاده
21-شباط-2023
إبراهيم العريس
جرت العادة لدى الأدباء والمؤرخين السوفيات، لا سيما خلال المرحلة الستالينية التي توسطت القرن العشرين، على إحاطة ما يكتبونه من مذكرات ويوميات وإشارت إلى أحداث أو أشخاص معاصرين بنوع من المسكوت عنه، فيبتعدون عما قد يحرجهم أمام الرقباء وما يحرج الرقباء أمام المسؤولين السياسيين، وما يحرج هؤلاء الأخيرين أمام الحزب والحزب أمام الزعيم. ومن هنا، كانت ثورة فكر وتحرر – ولو نسبياً – تلك التي تلت موت ستالين واختفاء جدانوف في ركابه، إذ أطل عهد خروتشوف الذي ما إن جف قبر سلفه حتى بدأت تنهال الانتقادات على الراحل، ثم ما لبست أن انقضت أشهر قليلة على رحيله حتى فجر الزعيم الجديد قنبلة من العيار الثقيل، تمثلت في التقرير الذي قدمه إلى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، والذي وجه من الاتهامات إلى ستالين وعهده ما لم يكن أحد ليحلم بسماعه.
على خطى خروتشوف
وعلى الأثر اقتفى الكبار والصغار من الأدباء والمفكرين خطى خروتشوف، وراحت تصدر الكتب وتصور الأفلام في حراك بدا كالمستحيل أن يصدق. والغريب في الأمر أن إيليا إهرنبورغ، الكاتب المولود في كييف الأوكرانية، والذي كان يحسده رفاقه بقدر ما يمجدون كل صفحة يكتبها، مذهولين بما يكتب وينشر، معتبرينه ابن العهد السابق المدلل، إذ كان الأبرز في تبنيه الخط الخروتشوفي في مجال الإبداع إلى درجة أنه ما لبث أن اعتبر المعادل الأقوى في عالم الفكر والإبداع لسياسة "إذابة الجليد" التي تمثلت في انتفاضة خروتشوف ضد الجمودية الستالينية. فإذا كان خروتشوف قد خلف ستالين ليقيم هذا الأخير من قبره ولا يقعده بتقريره الشهير الذي فضح مثالب الستالينية والخطايا الكبرى التي اقترفت طوال ما يقرب من نصف قرن كانت هي عمر الاتحاد السوفياتي حتى ذلك الحين، فإن إيليا إهرنبورغ كان واحداً من أوائل الكتاب الذين امتشقوا القلم ليبدأوا عصر إذابة جليد أدبي يشبه عصر إذابة الجليد السياسي الذي بدأه خروتشوف.
بدل الانتظار
والأهم من هذا هو أنه إذا كان خروتشوف قد انتظر ثلاث سنوات فصلت بين موت ستالين والمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (1956) قبل أن يقدم تقريره الشهير، فإن إهرنبورغ لم ينتظر طويلاً، بل أصدر في عام 1954، أي في العام الذي تلا مباشرةً وفاة ستالين، روايته الأشهر "إذابة الجليد"، التي افتتحت عصراً جديداً من الأدب السوفياتي وفضحت الفترة السابقة، ثم أعارت اسمها لكل العملية النقدية التي نسفت الستالينية من أساسها. والحال أن إيليا إهرنبورغ كان له، في ما كتبه، من الصدقية ما لم يكن لغيره، وذلك بكل بساطة لأنه لم يكن أصلاً من المنشقين ولا من الذين طاولتهم براثن ستالين وجدانوف أو بوليس بيريا السياسي. كان بالأحرى ابناً من أبناء النظام ورمزاً من رموزه الأدبية. ومن هنا كان له في مكانته ما جعل كل ما قاله عن المرحلة الستالينية، بل عن التاريخ السوفياتي كله يلقى آذاناً صاغية، ويسهم في تمهيد الأذهان لتقبل ما جاء به خروتشوف بعد عامين.
تساهل رقابي
صحيح أن الرقابة السوفياتية التي تساهلت مع إهرنبورغ طوال ما تبقى من سنوات الخمسين، عادت ومارست حظراً وقمعاً على بعض أعماله اعتباراً من عام 1963، غير أنها لم تتمكن من النيل منه شخصياً، وتحديداً لأنه كان على الدوام رمزاً كبيراً من رموز الأدب الرسمي، ومن هنا حين رحل إهرنبورغ عن عالمنا في عام 1967، شيع كبطل من أبطال الاتحاد السوفياتي واعتبرته الصحافة السوفياتية أحد كبار الكتاب السوفيات في القرن العشرين، لكن اللافت في ذلك كله أن تلك الصحافة، وفي مجال تعدادها، أعمال إيليا إهرنبورغ "التي قرأها الشعب السوفياتي وأحبها طوال سنوات حياة الكاتب"، بالكاد أتت يومها على ذكر "إذابة الجليد" أو "السنين والرجال"، أي كتابيه اللذين ربطا اسمه بـ"التمرد الخروتشوفي" على الستالينية، ما أشار بالطبع إلى أن خروتشوف والمؤتمر العشرين، وكل تلك المرحلة "الانفتاحية" باتت في مهب النسيان. فما هو "السنين والرجال"؟
سيرة ذاتية مواربة
ببساطة هو نوع من "سيرة ذاتية" للكاتب تبدو مواربة في حديثها عن خمسين سنة من عمر بلاده، بل بالتحديد، وكما قال هو في تقديمها الذي سرعان ما اختفى بالتدريج، حتى ولو أن الكتاب عاد وطبع مرات عديدة بعد ذلك، "عن الأكاذيب التي ملأت تاريخنا خلال السنوات الأخيرة". ولعل اللافت هنا أن إهرنبورغ، حتى وإن لم يفصح دائماً عما عناه بـ"الأكاذيب"، كتب نصه بلغة غاضبة، وتعمد غالباً أن يستعيد في تصويره حال بلاده، بما كتبه عن تلك الحال بنصوص كثيرة لعدد من مبدعين أجانب لم يتردد كل منهم في التعبير عن خيبة أمله، بل حزنه لما آلت إليه "ثورة بلشفية كبيرة كانت محط آمال البشرية ومثلاً يحتذى"، فإذا بها تتحول منذ نهايات سنواتها العشر الأولى – أي على يد ستالين وحزبه ومعاونيه ومحاكمه – إلى خيبة كبرى، خيبة أدت إلى انتحار مبدعين وأفراد عاديين وإلى سلوك آخرين دروب المنافي أو معسكرات الاعتقال، إن لم يعدموا هكذا وبكل بساطة. والحقيقة أن إخضاع أدب إهرنبورغ وشعره للفحص الدقيق اليوم قد يكون من شأنه أن ينسف الفكرة التي قد يوحي بها هذا النص، والتي تفترض أنه حمل راية التمرد والإصلاح حتى قبل ظهور خروتشوف، لكن هذا لا يمنع من القول إن دور إهرنبورغ في الحياة الأدبية والصحافية كان كبيراً، ولا سيما خلال عمله مراسلاً حربياً لصحيفة "الأزفستيا"، وصحيفة "النجم الأحمر"، حيث كتب، وهو مشارك في الحرب الإسبانية، بعض أبدع التحقيقات عن تلك الحرب.
حياة مجيدة وترحال مثمر
ولد إهرنبورغ في عام 1891 في مدينة كييف (عاصمة أوكرانيا اليوم)، لكنه أمضى طفولته في موسكو، ثم أمضى جل شبابه في باريس، وسافر إلى العاصمة الفرنسية بعد أن كان قد اعتقل في موسكو في 1907 بسبب "نشاطات تخريبية" وانتمائه إلى تنظيمات شيوعية. وفي باريس اختلط الكاتب الشاب بأوساط الثوريين الروس المنفيين، كما اختلط بالأوساط الأدبية التقدمية في فرنسا. وفي باريس نشر أول أشعاره، كما كتب أولى مقالاته الصحافية. وعاد إلى روسيا في عام 1917، إثر انتصار الثورة البلشفية، وأسهم في النهضة الأدبية والفكرية، غير أنه سرعان ما شعر بالحنين إلى باريس وحياتها الصاخبة، فتوجه إليها في عام 1921 كمراسل لصحيفة الدولة الرسمية. وهناك خاض الكتابة الصحافية والأدبية في وقت واحد، وتابع الحياة الفكرية وأسهم في النقاشات التي سادت العاصمة الفرنسية حول النظرة إلى الاتحاد السوفياتي، والتي أثارتها كتابات "أندريه جيد". في أواسط الثلاثينيات توجه إهرنبورغ إلى إسبانيا لتغطية حربها الأهلية، ثم عاد إلى فرنسا مكللاً بالغار الأدبي لأن كتاباته حول تلك الحرب جعلته بطلاً حقيقياً وأكسبته شهرة ومكانة كبيرتين.
أديب كبير
لكن بقاءه في فرنسا، هذه المرة، لم يطل، إذ اضطر إلى العودة لموسكو إثر الغزو الألماني لفرنسا. وفي موسكو راح من جديد يخوض الكتابة حول الحرب، مما جعله يعد واحداً من ألمع الصحافيين السوفيات على الإطلاق. وفي الوقت ذاته واصل كتابة الشعر والرواية، وبدأت رواياته تنتشر على نطاق واسع. ويقسم النقاد أعماله عادةً إلى ثلاث مراحل: مرحلة الثلاثينيات حين أصدر "زفاف موسكو"، وبخاصة "مغامرات خوليو خورونيتو الغريبة"، ثم مرحلة ما بعد الحرب الثانية، حيث خاض الكتابة الروائية السياسية المباشرة، وكان من أبرز نتاجاته "سقوط باريس" (1941) و"العاصفة" (1947) و"الأسطول التاسع" (1951). أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة إذابة الجليد التي صار فيها سيداً من سادة الأدب الناقد للممارسات الستالينية، وهي الفترة التي بدأها برواية "إزالة الجليد"، وواصل خلالها الكتابة مستفيداً من مناخات ليبرالية جديدة سادت خلال بدايات العهد الخروتشوفي، وكان من أبرز ما كتبه خلال تلك الفترة نص "السنين والرجال" الذي أشرنا إليه أعلاه، والذي نشره مسلسلاً في مجلة "نوفي مير" الرسمية.