بغداد - العالم
لا شك أن إحدى أبرز السمات التي طبعت عام 2023 هي انتشار استخدامات الذكاء الاصطناعي في أكثر من مجال وقطاع، وتمكنت شركات التكنولوجيا من استقطاب 50 مليار دولار من الاستثمارات في هذا العام، بنمو فاق 70 في المئة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة.
ويتوقع تقرير لشركة الاستشارات الإدارية ماكينزي أن يضيف الذكاء الاصطناعي التوليدي ما يتراوح بين 2.6 و4.4 تريليون دولار للاقتصاد العالمي كل عام، ويعتقد أنه يمكن أتمتة نصف أنشطة العمل اليومي بين عامي 2030 و2060.
ويؤكد هذا النمو المتسارع لشركات الذكاء الاصطناعي أن العالم مقبل على ثورة في استخدامات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بل إنه دخل فعلا وبخطى متسارعة في هذا المجال، إذ لا يكاد قطاع يخلو منه، حيث صار بإمكان كل القطاعات الاستفادة من خصائص الذكاء الاصطناعي بدءا من التعليم والصحة والبيئة والإعلام وصولا إلى القطاعات العسكرية والأمنية، ناهيك عن القطاعات الاقتصادية مثل النقل والتصنيع والزراعة.
وتثير الثورة التكنولوجية الحالية الكثير من الآمال والتطلعات، لكن تحيط بها أيضا مخاوف كبيرة، فرغم خصائص الذكاء الاصطناعي المتميزة والتي من شأنها جعل حياة الناس أكثر يسرا، إلا أنه طرح عدة علامات استفهام حول استخداماته المثيرة للجدل خاصة ما تعلق بالمسائل العسكرية والأمنية، فضلا عن المساس بالحياة الشخصية للأفراد، ما جعل التركيز يتزايد حول أخلاقياته و”الاستخدام المسؤول والشفاف والمساءلة في تطبيقاته”.
وفي مارس الماضي دعت منظمة اليونسكو بلدان العالم إلى تطبيق توصيتها الصادرة في عام 2021 لتنظيم الذكاء الاصطناعي بالكامل وعلى الفور، بعدما أطلق الملياردير الأميركي إيلون ماسك والمئات من الخبراء في مجال التكنولوجيا نداء يدعون فيه إلى الإيقاف المؤقت لتدريب أقوى نظم الذكاء الاصطناعي، بما فيها تطبيق شات جي.بي.تي، محذرين من “مخاطر كبيرة على البشرية”.
وقالت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي آنذاك في بيان “يحتاج العالم إلى قواعد أخلاقية أقوى للذكاء الاصطناعي، وهذا هو التحدي الذي نواجهه في وقتنا الحاضر”.
تعتبر عدة دراسات وتقارير أن أبرز استخدامات الذكاء الاصطناعي في عام 2023 تجلت في القطاعات العسكرية والتعليمية وفي مجال البيئة.
ويرى محللون أنه على غرار البارود والقنبلة النووية، يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على إحداث ثورة في الحروب، ما سيولّد نزاعات بشرية مختلفة على نحو لا يمكن تصوّره وأكثر فتكا.
وتعد الحرب على غزة مثالا حيا على ذلك، حيث حولت إسرائيل القطاع إلى ميدان تجارب لاستخدامات الذكاء الاصطناعي، إذ ضاعفت عدد الأهداف التي ضربتها بفضل استخدام الذكاء الاصطناعي.
وكانت الباحثة الفلسطينية العاملة في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي نور نعيم قالت في تصريحات سابقة إن “إسرائيل ضربت 15 ألف هدف باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي المسماة غوسبيل، في أول 35 يوما من الهجمات”.
وأشارت إلى أن “هذا الرقم أعلى بكثير من عدد الأهداف التي تم ضربها في العمليات السابقة في المنطقة، حيث إن إسرائيل تمكّنت من ضرب ما يقرب من 6 آلاف هدف خلال الصراع الذي استمر 51 يوما في العام 2014”.
وكشفت نعيم أن برنامج تحديد الأهداف التلقائي غوسبيل الذي استخدم لأول مرة في غزة “يمتلك القدرة على اتخاذ القرار، ويتمتع بخاصية القتل والتدمير بغض النظر عن عدد الأهداف، وبالتالي فإن عدد الضحايا يمكن أن يتراوح من صفر إلى مليون”.
رغم خصائص الذكاء الاصطناعي المتميزة، والتي من شأنها أن تيسّر حياة الناس، فإن استخداماته ظلت مثيرة للجدل
ويعكس حديث الباحثة الفلسطينية مدى خطر هذا البرنامج، بالإضافة إلى أنه يكشف إمكانية تسبب الذكاء الاصطناعي في مضاعفة عدد ضحايا الحروب، وجعلها أكثر مأساوية للشعوب وللإنسانية، وهذا أحد سلبيات استخدامه، خاصة إذا وقع في أيدي طرف يمارس “الإبادة الجماعية” ولا يخضع لأي رادع قانوني أو أخلاقي.
وعلى الصعيد الأمني والاستخباراتي تشتعل حرب من نوع آخر بين المخابرات الأميركية ووزارة أمن الدولة الصينية، ميدانها التنافس على استخدام وتطوير الذكاء الاصطناعي لأغراض تجسسية.
وبحسب تحقيق نشرته صحيفة نيويورك تايمز تقوم وزارة أمن الدولة الصينية (المخابرات الصينية) بتشغيل برنامج للذكاء الاصطناعي يتولى “إنشاء ملفات فورية عن الأفراد محل الاهتمام، من خلال تحليل البيانات من مصادر مختلفة، بما في ذلك كاميرات المراقبة، ولوحات أرقام السيارات، وسجلات الهاتف المحمول”.
وتبذل وكالة المخابرات المركزية الأميركية جهودا لمواجهة التحدي الصيني من خلال العمل على “جمع البيانات عن الشركات الصينية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وغيرها من التقنيات المتقدمة”، وفق المصدر ذاته.
وقامت واشنطن بإنشاء مركز مهمات صيني، ومركز استخبارات تكنولوجي تحت قيادة الرئيس الأميركي جو بايدن، وفقا لنائب مدير وكالة المخابرات المركزية ديفيد كوهين.
ويعزز هذا التوجه اعتبار بعض الخبراء أن الذكاء الاصطناعي موضوع مهم بدأ يُحدث تغييرات في النزاعات المسلحة وفي المنافسة على الهيمنة العالمية، إذ يقول مراقبون إن بكين تستثمر بشكل هائل في الذكاء الاصطناعي إلى درجة أنها قد تتمكّن من تغيير ميزان القوى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وربما أبعد منها، وإن لذلك تداعيات جسيمة على النظام العالمي الذي هيمنت عليه لفترة طويلة الولايات المتحدة.