بغداد - العالم
عقب نزوح عائلة إسكندر عام 1925 من مدينة أورفا هرباً من المذابح التي نفذها الأتراك آنذاك بالسريان والكلدان والأرمن، التجأت إلى مدينة دير الزور السورية، التي ستشهد عام 1938 ولادة نوري إسكندر. أغرم الفتى منذ سنوات صباه الأولى بالموسيقى المشرقية، ثم انتقل نوري للعيش مع أسرته في حلب، المدينة التي سينهل الشاب الصغير من معين زواياها الصوفية، ويطرب لأمسيات بيوتها، ويصغي إلى خبرة شيوخ الطرب فيها. فكانت التفاتاته الأولى نحو أصول المقام المشرقي وتفرعاته وأصوله السريانية القديمة.
كان نوري في تلك الأيام يرافق المعلم الكبير محمد قدري دلال إلى الزاوية الهلالية في حلب، ومنها إلى المساجد وحلقات الموالد والأذكار لدراسة كل ما يتصل بالجملة اللحنية السورية، وكل ما يتصل باشتقاقات تلك الجملة في الابتهالات الدينية الإسلامية. ومع أن بداياته كانت كعازف ترومبيت مع الفرقة الكشفية السريانية، إلا أنه درس آلة الكمان وعمل لسنوات معلماً لمادة الموسيقى في المدارس الابتدائية والإعدادية ودار المعلمين في عاصمة الشمال السوري.
بدأ نوري إسكندر رحلته مبكراً في توثيق فلكلور بلاده الموسيقي، فبعد تخرجه في المعهد العالي للتربية الموسيقية في القاهرة عام 1964 عاد مجدداً إلى حلب، وأسس فيها ما عرف بـ"الكورال السرياني" عام 1965، وشغل منصب مدير المعهد العربي للموسيقى بين عامي 1994 حتى 2003. تلك السنوات شهدت بزوغ نجم الملفونو - (تعني الأستاذ بالسريانية). فقام هذا المعلم منذ ستينيات القرن الماضي بتوثيق أعمال المدرسة الرهوية (نسبة إلى مدينة الرها) أورفا التركية حالياً.
في تلك الفترة أسس صاحب موسيقى "أعمدة النور" "فرقة شاميرام" في بيروت عام 1970، وقدم حفلاته الأولى معها عام 1974 في قصر اليونيسكو في العاصمة اللبنانية، وذلك بالاشتراك مع المطرب الراحل وديع الصافي (1921 - 2013)، وقدما في تلك الحفلة أغاني شعبية سريانية. منذ ذلك الوقت انكب إسكندر على محاولة دراسة شخصية المقامات الموسيقية الشرقية، وبحث في أناشيد الفن الصوفي الإسلامي، ومدى تأثرها بالجمل اللحنية الآرامية والسريانية، فكتب عديداً من الأعمال الموسيقية بطريقة تأملية صوفية، لعل أهمها تلك التي أنجزها لأسرة الوتريات ذات القوس، من مثل عمله "موال من الشمال"، فعالج من خلالها فكرة الهوية القومية بصياغة أكاديمية ذات قوالب عالمية، ساعياً إلى بناء ما يشبه "الموتيف" الموسيقي السوري في صيغ معاصرة.
رحلة صاحب "حوار المحبة" في مرافقة أصول الألحان والمقامات السريانية شملت عديداً من المدارس، لكن أهمها كان اشتغاله على مدرستي الرها ودير الزعفران، اللتين عمل على تدوين أعمالهما ضمن نوطتين موسيقيتين، فحاول بذلك إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراث الموسيقي السرياني، الكنسي منه والشعبي، وذلك عبر تدوينه وتحويله من شفهي متناقل إلى مكتوب وموثق خشية عليه من الاندثار.
وفي هذا الصدد وضع نوري إسكندر كتابه الضخم بعنوان "بيت كازو" وهو مشروع لتدوين قرابة 800 لحن سرياني بطريقة أقرب إلى الواقعية، وتسهل استخدامها للباحثين والمهتمين، وبموجب مفاهيم ونظريات موسيقية متداولة في كل من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن وتركيا، بحيث إذا جاء أي موسيقي من أبناء منطقة الشرق الأوسط يجيد فهم الموسيقى العربية الشرقية لأمكنه الاستفادة من هذا التنويط.
وفي عمله على تدوين الإرث السرياني الموسيقي احتفظ صاحب "الآهات" بقدر الإمكان بالهيكل الأساس للألحان، فحافظ على المسافات الشرقية المناسبة لها، وابتعد عن تقسيم هذه الألحان إلى مقاييس موسيقية حديثة خوفاً من تحديد وتشويه أو تأطير اللحن، إذ إنه عرف أن دراسة إيقاع الألحان ونبراتها موضوع شائك يحتاج إلى وقت وتأمل أكثر. عدا عن أن كثيراً من الألحان السريانية التي قام بتدوينها تحوي احتمالات وتفسيرات عدة للإيقاعين الموسيقي والشعري أو الاثنين معاً. لذلك قام بتنويط الألحان على أساس الجمل الشعرية في النص، جنباً إلى جنب مع جملها الموسيقية من دون تحديد المقاييس.
وكان لافتاً تدوين نوري إسكندر النوطات الموسيقية من اليمين إلى اليسار، وذلك تبعاً لقواعد اللغة السريانية التي تقرأ بهذا الشكل، فوضع تحت كل مقطع الدرجة النغمية الموسيقية لتسهل ترتيل هذه النصوص وغنائها، ولزيادة توثيق هذه الأعمال تم تسجيلها بأصوات عدة من القوالين والمؤدين والشمامسة، وشملت الطقوس الدينية على مدى السنة كصلوات الصباح والمساء، وصلوات الأعياد والعماد والجناز وتقديس البيعة.
واكتشف إسكندر أثناء بحثه في بطون الكتب والمؤلفات الموسيقية المشرقية أن الطقوس الكنسية المشرقية والألحان المرافقة لها لم تكتمل دفعة واحدة على ما نراه اليوم، إنما كانت حصيلة سنين طويلة دامت أكثر من ستة قرون. ففي القرون الأولى كان المؤمنون يؤدون بعض الترانيم البسيطة المرافقة للطقوس، وعندما نصل إلى القرن السابع للميلاد أخذت هذه الترانيم شكلها الموسيقي الحالي، ولكن بقوالب وأشكال فنية متعددة وغنية. ففي القرون الأول والثاني والثالث ابتعدت الألحان كلياً عن الطقوس الوثنية السابقة، ومنها طقوس "أسبوع الآلام" التي شهدت عودة الدراما المسرحية ضمنها، إضافة إلى ترانيم وأناشيد وابتهالات رافقت طقوس من مثل: "الناهيرة" و"خميس الغسول" و"جمعة الآلام" و"القيامة".
واكتشف إسكندر أن هذه الطقوس ليست سوى مشاهد مسرحية تضمنت قصصاً ومواضيع آلام وموت السيد المسيح وقيامته بطريقة فنية موسيقية، ومنها اشتق الموسيقار الراحل أجواء تلحين عمله الموسيقي "عابدات باخوس" عن نص للكاتب المسرحي اليوناني يوربيديس (480 - 406 ق م). أفاد نوري إسكندر في معظم مؤلفاته من نظام الألحان الثمانية، أو ما يسمى بـ"أوكتا إيكوس"، وهو نظام استخدمه السريان واليونان أيضاً، ويقوم هذا النظام على ثمانية ألحان تدعى: "قولو" أي صوت، ويمكن تفسير وترجمة قولو بكلمة لحن، وأي لحن أو قولو يتألف من مجموعة "البيت كازو"، وهو نسق مبني على جنس موسيقي معين مؤلف من ثلاث درجات موسيقية متتالية أو أربع أو خمس درجات متتالية صعوداً أو هبوطاً، وهو ما يماثل في أيامنا مقامات من مثل البيات والنهاوند والحجاز والراست المعروفة حالياً في دول الشرق الأوسط.
صبيحة عيد الميلاد أغمض المايسترو عينيه عن 85 عاماً في مدينة أوروبرو في السويد، ونعاه كل من وزارة الثقافة السورية والمعهد العالي للموسيقى ودار الأوبرا في دمشق. فبعد ما يقارب 60 عاماً من البحث المضني والتأليف الموسيقي الكثيف لم يجد الموسيقار ملاذاً في وطنه الذي فقد صوابه دفعة واحدة في سنوات الحرب، فقرر مغادرته إلى منفاه الإسكندنافي بعد أن ترك وراءه عشرات الأعمال في التدوين الموسيقي السوري، وكان من أبرزها: "كونشيرتو العود" و"كونشيرتو التشيللو" و"الثلاثي الوتري"، إضافة إلى "يا واهب الحب" وقصيدة "قطافة" للشاعر حسين حمزة.