إبراهيم العريس
أمران أساسيان طبعا حياته وعرف بهما الكاتب الألماني هاينريش مان (1871 – 1950)، أولهما كونه الأخ الأكبر لتوماس مان، صاحب "دكتور فاوستوس" و"الجبل السحري"، وكبير تلك الأسرة التي أنجبت عدداً لا بأس به من الكتاب وعاش أبناؤها منافي وتقلبات عدة، وثانيهما أنه صاحب تلك الرواية الرائعة التي كانت الأصل الأدبي لواحد من أشهر الأفلام التعبيرية في تاريخ السينما الألمانية الصامتة "بروفيسور أونرات"، التي تحولت على يد جوزف فون شترنبرغ إلى الفيلم المدمر "الملاك الأزرق". ونعرف أن الفيلم والرواية قد كانا من الشهرة بحيث يخيل لكثر أن هاينريش لم يكتب في حياته سوى تلك الرواية. ولم يكن ذلك صحيحاً بالطبع، فهذا الكاتب الذي كثيراً ما اشتهر بعتابه بل لومه الذي وجهه إلى أخيه توماس بسبب تقاعس هذا الأخير عن اتخاذ مواقف صارمة ضد هتلر ونازييه يوم استشريا وشرعا بتدمير ألمانيا والذهاب بالعالم إلى الخراب، كان دائماً غزير الإنتاج وله من تجاوب القراء ما كان يفوق ما لتوماس حتى وإن توافق النقاد والمؤرخون على تفوق هذا الأخير على أخيه الأكبر وعمق كتابته وفلسفته.
امرأة طالعة من الأساطير
المهم بالنسبة إلينا هنا هو أن نتوقف عند عمل كبير آخر من نتاجات هاينريش مان الروائية سبق بسنوات ثلاث تلك "القنبلة" الأدبية والاجتماعية التي ستكونها روايته الكبرى والأشهر "بروفيسور أونرات" التي صدرت عام 1905 لتحقق نجاحاً كبيراً انعكس على معظم ما كان هذا الكاتب قد أبدعه من قبلها وعلى ما سوف يبدعه من بعدها. والرواية التي نعنيها هنا هي "الربات" الصادرة عام 1902 لتعتبر أجمل تحية للمرأة خصها بها كاتب أوروبي، إلى جانب كونها واحدة من التحيات البديعة التي وجهها كاتب شمالي إلى الثقافة والتاريخ الإيطاليين، حتى وإن كان عنوانها الثانوي "روايات الدوقة داسي الثلاث" لا يوحي بذلك للوهلة الأولى. أما هذه الدوقة التي جعلها مان محوراً لروايته هذه فهي فيولنتا التي يقدمها لنا باعتبارها آخر سلالة دوقات داسي، وهي التي ما اختار الكتابة عنها في ذلك النص التخييلي منذ البداية إلا لأنه رأى فيها وفي حكاياتها تجسيداً مثلثاً للمرأة المثالية، يقدمها مرة تحت ملامح دايانا، وأخرى تحت ملامح مينيرفا وثالثة وأخيرة تحت ملامح فينوس. والثلاث كما نعرف هن ربات الأساطير القديمة الثلاث سواء كن يحملن أسماء إغريقية أو أسماء رومانية، وها هو ذا مان يستخدم هنا الأسماء الإيطالية تحديداً، لأن روايته لا يمكن أن تدور أحداثاً إلا في إيطاليا. وسوف ندرك لماذا، بعد سطور.
فضائل كل النساء
فمن هي تلك "المرأة المثالية" التي جعل لها هاينريش البطولة في روايته المبكرة تلك؟ هي مزيج من آلهات الأزمنة القديمة وتحمل في كل اسم من أسمائها السمات التي ارتبطت بها أسطورتهن على مدى التاريخ. هي فاتنة من جميلات السواحل الدالماتية اللاتي يختلط بياض البشرة لديهن بسواد الشعر الفاحم المنسدل والعينين النجلاوين والابتسامة المطلة دائماً على رغم كل ضروب المعاناة. غير أن تلك المواصفات الخارجية التي يبدع الكاتب في التغزل بها عبر تكرارها لن تكون شيئاً بالمقارنة مع الفضيلة والحكمة اللتين تتمتع بهما فيولنتا وتفرض بهما نفسها على مجتمع الرجال الذي من الواضح بداية أنه ليس مستعداً لأن يقبل منها سوى حسنها الخارجي، لكن فيولنتا التي ورثت عن دايانا إقدامها وعقلها الراجح، كما أخذت عنها دهاءها السياسي وقوتها وتوقها إلى الحرية قبل توقها إلى أي شيء آخر، وعن مينيرفا تطلعها الدائم إلى العيش وسط كل ضروب الفن والنهل منها إلى جانب ذلك التمازج الخلاق في داخلها بين وضوح الذهن وسعة البصيرة... غير أن فيولنتا تعرف أنها حتى ولو اتسمت بذلك كله وأحست إزاءه بالرضا عن نفسها، لن يمكنها أن تعيش من دون حب تملأ به قلبها، إذ من دون الحب لا يمكن للفن والفعل وحدهما أن يجعلاها تحس بإنسانيتها، وتتمكن من إنجاز ذاتها، بالتالي لا بد لها أن تعيش حياة فينوس، حياة الحب في أحلى تجلياتها. وعند هذه النقطة بالذات تتحول الرواية إلى حبكة فلسفية تنسج فيها حلقات وعلاقات متتابعة من الواضح أن الكاتب يمعن في وصفها وغايته أن يرفع من قدر بطلته جمالياً وإنسانياً.
كما ينبغي أن تكون
وهو يفعل هذا بعد أن رسم في الصفحات السابقة ما يمكن اعتباره صورة فضلى للمرأة كما ينبغي أن تكون. وربما كان نموذجه الفكري في هذا، ذلك الرسم المدهش الذي رسمه قبله بمئات السنين المفكر والنبيل الإنساني بالداسار كاستليوني في كتابه الذي تحدث فيه عن السمات التي يتعين أن تطبع رجل البلاط في مجتمع النبلاء. ولقد أسس مان هذا كله بشكل رائع في الصفحات التي انطلق فيها على سجيته متحدثاً عن طفولة بطلته وصباها. عن الظروف التي أحيطت بها وأحاطت هي بها كي تكون ما ستكون عليه جامعة بين الربات الثلاث، لكن فيولنتا كان لا بد لها أن تنمو بعد ذلك وترتبط برجال سيحاول كل منهم على طريقته إعادتها إلى الدروب المعتادة، أي إلى أن تعود "امرأة عادية تعرف حدودها" كما يخبرها واحد منهم، ولعله ذلك الحاكم الذي سيكون أول رجالها لكنه لن يكون سوى مسخ رجل لا تكف هي عن العبث بلحيته متضاحكة، ليتلوه في حياتها مصرفي شره لن تكون له سوى الاحتقار، وهو الذي تجرب عليه تلقائياً الجانب الذي استعارته من شخصية دايانا، ثم يلي ذلك في حياتها رسام يدعى جاكوبوس يعنف معها ولا تعود ثمة علاقة بينه وبين فنه الذي كان في الأصل قد ربطها به. وهنا تجاه جاكوبوس هذا تتحول فيولنتا إلى مقاتلة تجابهه بقوة وتخوض ضده نزاعات دموية تدمره. وهو ما ستفعله نفسه وقد تحولت هذه المرة إلى مينيرفا، مع الرجل التالي، الكاتب الشرس دي بروليو، الذي لن يكون مصيره معها أفضل من مصير تاليه الأمير كوكورو، ولا حتى النحاتة بروبرزيا بونتي التي سترتبط فيولنتا بها لفترة. ففي نهاية الأمر ليست معركة الدوقة مع كل هؤلاء معركة امرأة ضد الرجال، بل معركة تخوضها امرأة مثالية ضد من يخيل إليها أول الأمر أنهم رفاق حياتها المثاليين، سواء كانوا نساءً أو رجالاً، فينتهي بها الأمر إلى منعهم من تحطيمها قبل أن تنتقل إلى تحطيمهم وفقط في معرض دفاعها عما تحمله من قيم ومهارات وعواطف يبدو أن أخشى ما تخشاه إنما هو تغلبهم عليها، مما يفقدها إحساسها بكرامتها قبل أي شيء آخر.
الحب الحقيقي حلماً
فهل لهذا سينتهي بها الأمر إلى الهيام في نهاية المطاف بروكو من دون أن ترغب في التعرف إليه عملياً، مكتفية بأن تعيش حبها له في أحلامها، بعد أن كشفت لها الوقائع المتتالية المتعلقة بسابقيه أن كل علاقة تالية سترضى بأن تخوضها ستكون دماراً لها يحطمها على صخرة الواقع؟ ربما كان هذا ما عناه هاينريش مان في ذلك التتالي الذي أقامه في روايته بين صفحات وعلاقات يسودها حب وحنان سرعان ما يتركان المكان لكل ضروب العنف والخيبة. ولعل هذا أيضاً ما جعله يختم حكايته على موت فيولنتا ومعها تلك الصورة المثالية، إنما المستحيلة للمرأة التي يقول لنا إنه لن يمكن العثور عليها أبداً. فالواقع أن ما يختفي بالنسبة إلى مان كما بالنسبة إلى قراء روايته إنما هو حلم المرأة المطلقة. "تلك المرأة التي ربطها بذروة عصر النهضة التي تدور فيها أحداث الرواية وكله رغبة في أن يضفي على جنون ذلك الزمن الانتقالي أنواعاً متعددة من انحرافات الزمن الراهن، الذي كان الحديث عنه هو الهم الأساس لكاتب راح يبحث عن أعلى درجات الجمال والفضيلة والحكمة وقد استمدها من ربات الأساطير ليجدها في المرأة، لكن مشكلته كمنت في أن تلك المرأة نفسها كانت مستحيلة، ربة من ربات الأساطير لا أكثر".