عامر بدر حسون
قال الاب لطفله مؤنبا:
هل تعرف ان نابليون عندما كان في عمرك كان الاول في صفه؟
فرد الطفل ببساطة: وهل تعرف، يا ابي، انه كان اكبر الفاتحين عندما كان في عمرك ؟! وحالتنا، كعراقيين وعرب، هي التجسيد الفعلي لهذه النكتة. ولذلك لن يفلح الأبن ما دام الاب قد وضع سقفا عاليا لابنه لم يستطع هو او اجداده بلوغه! وبعيدا عن نكتة نابليون، فان الكل يجمع على ان تراثنا واسلافنا وقيمنا هي التي نقتدي بها، وان علينا ان نصبح يدا واحدة ونلتزم بما التزم به الاجداد. لكن الناس في كل مكان، خلافا لعبوديتنا لميراثنا ووصايا وتعليمات من هو اكبر منا، يستمتعون بميراثهم ويأخذون منه ما يناسب حياتهم، ويضيفون له ميراثا للأحفاد، وكل واحد فيهم حر ان يأخذ او يترك منه ما يشاء.. ولقد اختبرت شيئا قريبا من هذا:
في زيارتي الوحيدة لأميركا عام 1996 كنت ضمن وفد عربي لقضايا تتعلق بحقوق الملكية الفكرية، فجاءت سيدة كبيرة السن واخبرتنا ببرنامج زيارتنا والفوائد العظيمة التي سنجنيها ان التزمنا بحضور الندوات والمحاضرات، وهذا يتطابق مع ما قاله اهلنا، لكن ما فاجأنا في نهاية كلامها انها قالت بجدية:
- ومن يريد ان يستفيد اكثر.. فعليه ان لا يلتزم لا بالبرنامج ولا بمحاضراته وندواته! شيء غريب وصادم فعلا، فنحن أمة نعرف ان الالتزام بما هو مقرر هو طريق الفلاح والتوفيق، وداخ كثير من الزملاء: باي كلام منها سيلتزمون؟
لكنني جرّبت الأمرين:
التزمت بالنصائح مرة وتمردت عليها مرات، فلم اجد فارقا!
فحياة المسافر مثل حياة المقيم:
محاضرة متواصلة لمن يريد ان يتعلم.
وقال تشيخوف: استيقظ الاولاد، كعادتهم كل يوم، فغسلوا وجوههم ونظفوا اسنانهم واذانهم وجلسوا بانتظام الى المائدة تماما كما فعلوا في الصف كل يوم، ولم يخرجوا يوما على مثلهم العليا هذه.. لكنهم نشأوا ويا للأسف... بلداء وخاملين!
كل واحد في حياتنا، ومن الفاشلين تحديدا، لا ينفك يذكرنا بضرورة الالتزام بالمثل العليا كي نصبح مثل نابليون او عنترة بن شداد، وكالأولياء الصالحين في حسن الخلق، وكالملائكة في الاستقامة، وكالحجر في عدم ابتداع شئ، كي نفلح في هذه الحياة، التي ما افلح فيها منّا، منذ قرون سوى من رحم ربك.. اما البقية فكانوا كما ترى وتعرف! وبودي ان اقول ان سبب بلاؤنا كعرب وكمسلمين هو تلك المثل العليا والسامية التي ربونا عليها!
افتح فمك استنكارا واحتجاجا لكن هذا لن يغير من الامر شيئا.. وهذه حالنا منذ مئات السنين، مثل عليا وعجز عن تطبيقها!
والسبب انها، على جمالها ورقيها، كانت تفتقر لإمكانية تطبيقها على الواقع. واذكر ان احد الكتاب، الاجانب طبعا، اهدى كتابه لزوجته قائلا: - لم تكوني يوما الزوجة المثالية ولا الزوجة العظيمة الناجحة والصالحة.. لكنك كنت الزوجة الواقعية الرائعة!
وبودي ان نتعلم دائما من امنا وابينا ادم وحواء.
فقد كان الله هو من يتحدث اليهم. وأي مثل أعلى وارقى بالنسبة لادم وحواء من كلام الله؟ لقد اباح لهم كل شئ الا شجرة فذهبا اليها وأكلا منها! ثم انهما عرفا ودفعا ثمن الخطيئة، بل ثمن المعرفة.
ولعل الله قال لنا جربوا وتعلموا من تجاربكم! لكنهم يقولون لنا تعلموا من تجارب غيركم، ولا أعرف في حياتي احدا من هؤلاء، فكل من تعلّم تعلّم من اخطائه.. إنْ تعلم! ان المثل العليا التي قدمت لنا في التربية والحياة والسياسة كأشياء يمكن بلوغها، خلقت منّا اكبر مجموعة بشرية منافقة في الحياة! فنحن نتحدث فوق السحاب وارجلنا غارقة في وحل الواقع! أخلاق أخوتنا الأوربيين والمتحضرين صنعتها القوانين وليس المحاضرات والمواعظ. والقوانين، بحد ذاتها هي مثل عليا لكنها واقعية وواضحة، اما نحن فلا نتلقى الا المواعظ البلاغية التي لا عيب فيها سوى: انها لا تقبل التطبيق! اعطيت ذات يوم كتاب "الفتنة الكبرى" لطه حسين الى احد الشباب، وعندما انتهى منه قال منكسرا:
- لقد تبين لي انهم بشر مثلنا لا كما كنت اتصورهم!
وقيل قديما: المثل العليا مثل النجوم في ليل الصحراء:
نهتدي بها لكننا لن نصل اليها.. ابدا!