هل تسهم المعارض في نهضة الكتاب العربي أم تؤجل أزمته؟
23-أيلول-2023
العالم - وكالات
مع انطلاق موسم جديد لمعارض الكتب بين العواصم العربية كيف يقرأ الناشرون والمبدعون الصورة؟ وما الذي نحتاج إليه لتعود لهذه الأعراس الثقافية كفاءتها أم أن الصورة قاتمة؟ وعاجلاً أو آجلاً ستصبح تلك المعارض مثل "موضة" قديمة في ظل القرصنة والكتاب الإلكتروني وارتفاع ثمن الورق والرقابة وتداعيات جائحة كورونا؟ سألنا الناشرة المصرية فاطمة البودي (دار العين) أثناء وجودها في معرض فلسطين للكتاب، عن مدى تجاوز تأثيرات جائحة كورونا؟ فقالت: "للأسف لم نتجاوز تأثير ما حدث حتى الآن بل زادت الصعوبات والتحديات بعدها".
ويتفق الناشر الكويتي فهد الهندال (دار الفراشة) على أن الجائحة كانت اختباراً صعباً نتيجة إغلاق بعض المعارض لعامين كما حدث في الكويت، لكنه لا ينفي أن بعض الإدارات تفهمت وسهّلت الإجراءات كإلغاء رسوم الإيجار والتوكيل مثل معارض الرياض والدوحة والشارقة والكويت، وأخرى اكتفت بمبالغ رمزية، وطبعاً هناك معارض لم تفكر مطلقاً بمثل هذا الدعم. لا تبدو كورونا المتهم الوحيد، فالعديد من الدول العربية تعاني من حروب واحتجاجات واضطرابات داخلية أدت إلى اعتبار معارض الكتب رفاهية لا داعي لها.
وعلى سبيل المثال تشير الكاتبة والناقدة السورية فدوى العبود إلى توقف معرض الكتاب السوري لخمس سنوات بين عامي 2011 ـ 2016. من جانبه يرى الكاتب العماني محمود الرحبي أن المعاناة بسبب كورونا أو غيرها تكون موقتة ويضيف: "معرض مسقط مثلاً، في دورته الأخيرة بعد الجائحة لم يكن بالمستوى المطلوب قياساً بسنوات سابقة. ربما لأن الآثار الانسحابية للجائحة ما زالت سارية، والناس لم يندفعوا كما السابق لدخول المعرض وفي أيدي بعضهم حقائب سفر من أجل ملئها بالكتب، وربما حصل نوع من التشبع بسبب المكوث البيتي الطويل".
وعلى عكس تذبذب أداء معرض مسقط بعد الجائحة، ترى الكاتبة الكويتية باسمة العنزي أن معرض الكويت قدم واحدة من أفضل دوراته وتضيف: "كان واضحاً تلهف القراء لهذه الفعالية الاستثنائية، أعداد متزايدة كانت تتوافد يومياً على فترتين، وكان من أكثر المعارض ازدحاماً خلال العقد الماضي، ومن أكثرها نجاحاً وبيعاً بشهادة الناشرين".
مع استعادة المعارض لنشاطها ونشر خريطتها الزمنية تجدد الكلام حول غياب التنسيق في ما بينها. وتتفق البودي والهندال على أن التنسيق أصبح شبه مستحيل، فلا يخلو وقت من تداخل معرضين على الأقل، مثل معرض الأردن مع الرياض، والجزائر مع الشارقة، إضافة إلى صعوبة الانتقال من هنا إلى هناك، خصوصاً في ظل ارتفاع أسعار تذاكر الطيران وتكلفة الإقامة، وارتفاع أسعار الاشتراك فيها. لكن باسمة العنزي ترى أن الحد الأدنى من التنسيق قائم على الأقل في ما يتعلق بسبعة معارض عربية معروفة لنا جميعاً ويشد إليها الناشرون والكتاب رحالهم، وتقام في إطارها الفعاليات الثقافية وتصلنا منها أخبار الندوات وحفلات توقيع الكتب الرائجة. ليست جائحة كورونا ولا غياب التنسيق أبرز التحديات، فهناك أيضاً مكتبات خاصة وسلاسل توزيع وتوظيف تطبيقات مثل "الواتساب" وخدمات التوصيل، كل ذلك جعل فكرة "المعرض" مهددة، فما الداعي لتكبد العناء إذا كان بالإمكان أن يصل الكتاب إلى البيت وبتكلفة بسيطة توفر الوقت والمواصلات على القارئ؟ فهل يمكن أن تكون تلك المكتبات حلاً بديلاً؟
ترى البودي أن لا غنى عن استمرار المعارض؛ لأنها بنسبة كبيرة هي المنفذ الوحيد للناشرين العرب لتسويق كتبهم، لأن المكتبات قليلة ولا يتردد عليها سوى أعداد بسيطة، علاوة على التفاوت في تزويدها بكل جديد في سوق النشر. وبعض مكتبات التوزيع الناجحة تحولت إلى "ناشر" وأصبح تركيزها على إصداراتها. بينما تبدو نظرة الهندال أكثر إيجابية للمكتبات لأنها وفرت الكتاب على مدار العام وليس في موسم المعرض فقط، وشدد على ضرورة إعادة النظر في البدائل لتوفير الكتاب للقارئ العربي أينما كان.
تطبيقات وقرصنة
عطفاً على ما قاله الهندال حول البحث عن بدائل، هل تعتبر التطبيقات الإلكترونية بديلاً عصرياً يتجاوز العيوب المزمنة للمعارض؟ يبدو الناشر الكويتي متحمساً لهذا التوجه ويرى أن تأثيرها إيجابي على مستوى التسويق والتوفير وقلة التكلفة، والأثر السلبي يتمثل في القرصنة وانتهاك الحقوق. وتتفق البودي معه في النظرة الإيجابية للتطبيقات، وترى أنها أسهمت في ترويج الكتاب الورقي نفسه، لكن لو نُشرت النسخة الإلكترونية في البداية تؤثر سلباً على مبيعات الورقي، لذلك لا تميل لنشر النسختين بالتزامن.
ويقر محمود الرحبي بأنه لا يمكن تجاهل الرواج الكبير الذي أصبح عليه "البي دي أف" وكتب القرصنة الألكترونية. حيث تشكلت غروبات لهذا الغرض، توصل الكتاب المقرصن بنقرة إلى أكبر جماعة ممكنة من القراء. ويطرح الرحبي تصوراً متحفظاً بشأن الكتاب الإلكتروني قائلاً: الإلكتروني لا يخلو من إكراهات، على سبيل المثال من اعتاد أن يقرأ كتاباً من جهاز حاسوبه، عليه في كل مرة أن يأخذ هذا الجهاز معه أينما حلَّ، وهل يستطيع أن يفعل ذلك في الطائرة مثلاً؟ فليس الجميع لديه قوة العينين لكي يقرأ من شاشة الهاتف الصغيرة. الكتاب ليس مجرد ورق، إنما علاقة وملامسة وأسطر مكتوبة. هذا في الجانب النفسي. أما من الجانب الصحي، فالقراءة من الكتاب أريح وأصح للعين والعقل، وهي لا شك أجمل وتمتلك ذاكرتها.
وتشاركه التحفظ نفسه باسمة العنزي وتقول: التطبيقات الإلكترونية قللت من كمية الكتب التي يقتنيها القراء، وانخفضت القوة الشرائية بينما ارتفعت أسعار الكتب، إلا أن عالم الكتب ورواجها وما يدور حولها من فعاليات وقراءات وأنشطة من الصعب استبداله بذاكرة إلكترونية لا تحوي قوائمها على كل المؤلفات! الطباعة الورقية بكل أشكالها ستشهد انخفاضاً إلا أن الكتب الورقية ستحافظ على مكانتها على الأقل لدى شريحة الشغوفين بها.
بينما تطرح فدوى العبود وجهة نظر مغايرة فرضها الواقع السوري وتقول: التطبيقات والكتب الإلكترونية كانت المنقذ لنا في ظل الظروف الحالية في سوريا، فمع صعوبة توافر الكتاب والعجز عن شرائه، نشأت صداقات وألفة مع الكتاب الإلكتروني ربما أكثر من الورقي. الأمر شبيه بفقدان التمايز في الخطوط منذ استعملنا لوحة الكيبورد، حتى الرائحة المميزة للكتب لم تعد موجودة وكأن الكلمات غدت من دون روح منذ خضعت لمنطق السوق.
ثمة إجماع من الناشرين والمبدعين على ضعف القدرة الشرائية وتراجع المبيعات، وترجع فاطمة البودي ذلك إلى ارتفاع أثمان الورق والأحبار وأدوات الطباعة، في ظل موجة الغلاء في بلدان عربية كثيرة من ثم أصبح شراء كتاب ترفاً لا يلائم ميزانية أسر كثيرة للأسف.
ما يشتكي منه الناشر من تراجع الإقبال يقر به المبدعون والمثقفون باعتبارهم القوة الشرائية التقليدية في سوق الكتب، لذلك تقول فدوى العبود: في ظل العقوبات على سوريا كان الكتاب أول المتضررين، ولنكن واقعيين حتى لو أقيمت معارض الكتب فالإقبال عليها سيبقى باهتاً، منذ فترة حاول أحد الأصدقاء التواصل مع دار نشر سورية من أجل مجموعة من الكتب وتبين أن ثمنها يعادل راتب موظف لعامين! فالظروف الصعبة تجعلنا نرثي الكتاب الورقي، فالحرب جعلتنا نخاف اقتناءه كما نخاف من تعمير البيوت، فبسبب الحرب تهدمت البيوت فوق المكتبات، وكان أول ما يفعله لصوص الحرب هو نبش المكتبات ورمي الكتب أرضاً بحثاً عن المال، وبالنسبة إلى بشر فرضت عليهم الظروف القاسية الارتحال من مكان إلى آخر يشكل الكتاب الورقي عبئاً. في حاسوبك تستطيع أن تحفظ كتبك وتقرأ حيث تقيم. تغير مفهوم الكتاب كما تغير مفهوم البيت وكل شيء.
هزلية الرقابة
تنتقد فاطمة البودي عدم تطوير الرقابة في المعارض وحرية انتقال الكتاب حيث لم يحدث فيها أي تطور، فهناك رقابة صامتة وأخرى معلنة، على رغم أن الإنترنت يتيح كل شيء ببساطة، وقالت: أتمنى أن ينتبه المسؤولون إلى أن "الرقابة باتت موضة قديمة" وكل قارئ يستطيع الآن اختيار ما يناسبه.
ويتفق الهندال أيضاً في هزلية الرقابة بسبب ضغوط نيابية ما ونحن في عصر الذكاء الاصطناعي! كما انتقد الهندال الشكل القائم لمعارض الكتب على قديمه، من دون محاولة التطوير والارتقاء بمستواه، فأصبح ـ على حد تعبيره ـ مجرد نشاط سنوي يُملي وقتاً شاغراً في الجدول السنوي، وعبئاً على الدول التي لا تهتم بصناعة الكتاب وحرية الإبداع. مع ارتفاع كلفة الشحن وإضافة قيمة مضافة أو ضرائب على معارض لا تشكل ربحاً عالياً لدور النشر.
يرى محمود الرحبي أن الصورة ليست قاتمة كما نتصور، ويقول: ربما كثيرون لم يعد الخبز يشكل لهم أهمية غذائية، ولكنك بمجرد أن تقف أمام المخابز إلا وترى نقيض ذلك، فالزحمة على أشدها على رغم تقليعات الكيتو والدايت وهجران المخبوزات. فالكتاب الورقي باق لا خوف عليه لكن من الضروري مراعاة الشكل الجمالي له وليس فقط قيمة المحتوى، وابتكار آليات تسويق عصرية. وعلى رغم إقرارها بالصعوبات التي تواجه معارض الكتب تقول باسمة العنزي: أظن التحدي الحقيقي لمعارض الكتاب أن تسهم في زيادة معدلات القراءة في عالمنا العربي، وتشتغل أكثر على شريحة طلبة المدارس المرتبطين بالقراءة، وأن نشاهد فعاليات تهم هذه الفئة العمرية فالاستثمار الحقيقي في خلق رابط بينهم وبين الكتب، رابط بينهم وبين الآخر والغد.