هندسة الوهم
24-أيار-2023
د. ياس خضير البياتي
يبدو أن حياتنا العربية كلها أوهامٌ في أوهام؛ أوهام تزدحم فيها ذاكرة الإنسان العربي، وتتراكم عليها دهون الخداع والتضليل. والذي يعيش في أوطاننا يستطيع أن يجد بسهولة عشرات الأمثلة من الأوهام التي يسوقها صنّاع الكذب والتزوير؛ لزخرفة حياتنا بأوهام الجمال المزيَّف، وتخديرنا بـ (مورفين) الوهم، وتصديق ما لا يصدقه عقل ولا منطق.
ضلالة الوهم في أوطاننا، صنعت لنا خريطة حركتنا وتفكيرنا، وجعلتنا نتجرع مرارة حياتنا بالأوهام، ونعيش مأساة ثقافة الوهم التي زرعتها المؤسسات المختلفة؛ وذلك لإشعارنا بإنجازات ليست على أرض الواقع، وبمتعة (هلامية) مُصطنعة لا تراها العين، وسعادة زائفة، كما أن هذه المؤسسات تعزِّز لدينا الطمع والأنانية، وتعمِّق المفهومَ الكاذبَ للرضا عن النفس والحياة التي نعيشها.
إن لدينا أوهامًا كثيرة: وهم (السياسة) التي دخلت موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية؛ فأنظمتنا بارعة في تسويق الأوهام للناس على نارٍ هادئة، وتقديم الأحلام التي تروق لهم، أو ما سماه أفلاطون (الأكاذيب النبيلة)؛ لتحقيق مصالحها، وسرقة الأفكار والأمنيات.
إنه مشروعٌ قومي لإلهاء الجماهير، واختراع المُنجَزات الوهمية، وزرع الشائعات المتكررة في العقول بأوهام التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
أوهام سياسية تُساق، بالمفرد والجملة، للمواطن العربي لسرقة أحلامه ومستقبله؛ لكي تتسرب في عمق مُدركاته؛ من أجل بلادة العقل، وقبول المقسوم من فضلات النظام وأزلامه، ولجعلِ الحاكم وكأنه إلهٌ يُطاع طاعة عمياء في الأرض، كما استخفَّ فرعون قومه؛ فأطاعوه.
لذا أصبحت المعادلة: كلما احتقر الإنسان نفسَه زاد إعجابًا وتقديرًا في عين المُتسلط والطاغية، ومن هنا نشأت حالات النفاق والتزلُّف والتقرُّب للمتسلط؛ لتجعله المُنقذ والأوحد والمنتصر بالله، وبذلك تصبح دونيته جزءاً من طبيعته؛ لأن أقسى زمن هو ما يُوسَم بالقهر والرضوخ.
يبدو أن هناك هندسة للأوهام في بلاد العرب، وأنها بمثابة فطرة لشرعنه السياسة والحياة، خاصة وأنها بلدان تمتلئ بالسجون والغيبيات والاستبداد والفقر والقهر، حيث تم تنشئة البشر على ثقافة الذل والخذلان، وعدم قدرتهم على مشاكسة الحاكم أو الحزب، أو اتخاذ القرار المستقل. لذلك نسمع دائمًا مَن يقول: “هؤلاء لا يُحسون؛ إنهم لا يفهمون الكلام؛ إنهم لا يمشون إلا هكذا …بالقوة الغاشمة، و….بالسوط!.”
هناك وهمُ الإعلام الذي يأتيك بأخبار الحاكم السارة، ومنجزاته الوهمية، ومعها الأخبار السيئة للمواطن، وهو في ساحات الجوع والحروب والقتل ومآثر البطولات الوهمية. هناك كذب وخداع وتسويق للأوهام: كذب في الزواج، كذب في منجزات الحاكم، كذب في المعرفة، كذب في الإيمان، كذب في القصص والصور المُفبرَكة، كذب في أنواء الطقس وأجواء الطبخ ونفخ الوجوه ونحت الأجساد! هناك بيعٌ للأوهام في كسب الـ (مليون دولار)، والصعود السريع في الحياة، وتفخيم لجودة المنتوجات التي تمنحك السعادة والرفاهية والصحة والقوة الجنسية في الفراش!
إعلام يتلاعب بالعقول عن طريق تنقيح الصور والمعلومات، وإحكام السيطرة عليها، وتشتيت الأفكار لصالح القوى المسيطرة كما يقول (هربيت شيللر). والإعلام العربي، في توجُّهاته وخطاباته، هو صانع الوهم العربي، وقاتل حلم الإنسان، بخطابه المضطرب، وسطحية خطابه في تناول قضايا الأمة والناس؛ لذلك أسَّس واقعًا مريضًا أدى إلى تقوقع الإنسان العربي، ورسَّخ في عقله ثقافة الانسحاب بدلاً من المواجهة، والرضوخ للأمر الواقع.
فلا تُصدِّقوا حيادية الإعلام العربي، فإنه “حبر على ورق يُدرَّس فقط في الجامعات”؛ حيث إنه أُنشيء بأموال الأنظمة والأحزاب، وهدفه: تضليل الناس “بالقيل والقال” و” القاتل والمقتول”، وتسويق أوهام التفاهات والخُزعبلات؛ فلا معايير أساسية في دقة نقل الخبر، ولا الفصل بين المعلومة والخبر، وتوثيق المعلومة، ولا نوعية المصادر التي يتم الاستعانة بها؛ فلا معرفة ولا مهنيَّة ولا قيم ولا إنسانية تنبت في مزارع الإعلام العربي، مثلما لا تُوجد لديه معايير أخلاقية في نقل الأخبار من شبكات التواصل الاجتماعي التي تنتشر فيها الشائعات والمغالطات، وتهريب الأخبار المعسولة والمغسولة!
من الآخر، أوطاننا ملبَّدة بغيوم صناعة الأوهام، وفبركة تحقيق الأحلام. ونحن ما زلنا في إطار دائرة “المؤامرة الخارجية”، رغم أن بلداننا مستعمرة من الحاكم الفردي المستبد، والحزب المتخلف، والسياسي الانتهازي، مثلما تحكمنا الغيبيات والشعوذة، وفي رؤوسنا يستقر (الجن العربي) الذي يُغلق عقولنا، ويُغطي أعيننا ويطمس على بصائرنا؛ حتى لا نرى الواقع بألوانه الطبيعية.
الوهم أفكارٌ عن الدنيا، والوهم أحيانًا دواءٌ للمريض، وسعادةٌ للفقير؛ لكن الوهم العربي سلطة تحكُم بالعقل العربي؛ فتجعله غيرَ قادر على التساؤل أو على التفكير. لذلك ” لا يريد الناس سماع الحقيقة لأنهم لا يريدوا رؤية أوهامهم تتحطم ” كما يقول دستويفسكي. من هنا يكمن الموت ويترعرع قتل الوعي! فالأمم لا تنهض على محض الأماني والأوهام!
لا فكرة واضحة في العيش؛ فنحن نعيش في عالم من الأوهام المقدَّسة والحقيقة المدنَّسة؛ ففي الوهم وُجِدنا، وفيه نعيش لكي ننسى الواقع، وحينئذ لا تتعجَّبوا من كون الوهم يُحيل القويَّ ضعيفًا، والضعيفَ قويًّا، والقريبَ بعيدًا، والبعيد قريبًا. ونحن، مع الأسف، نمضي في هذه الحياة نقتات الأوهام حتى نستقر في القبر!