مي ابراهيم
تجمهر كبير من الناس يشاهد حادثة أو مشاجرة في مكان ما، ترتفع أيدي المشاهدين ليس لتقديم المساعدة، لكن لرفع الهواتف المحمولة، للحصول على أفضل زاوية لتصوير المشهد الذي غالباً ما سيحقق أعلى نسب المشاهدة بعد رفعه على وسائل التواصل الاجتماعي بساعات قليلة، هكذا أصبحت الحال فلم تعد الظاهرة مقصورة على منطقة بعينها أو مجتمع معين.
مقاطع الفيديو المتعلقة بتصوير الحوادث، التي أصبحت منتشرة في العالم كله على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام المختلفة صورها أشخاص عاديون موجودون في موقع الحدث بثبات انفعالي كبير، وكأنهم منفصلون تماماً عن المشهد، بل إن بعضهم تفنن في اختيار زوايا التصوير المثالية ليظهر الفيديو في أفضل صورة ممكنة، إذ لم يفكر كثير منهم في أن الأولى كان تقديم يد المساعدة، أو محاولة التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بخاصة في حال كان هناك شخص يحتاج إلى إغاثة.
وأخيراً انتشر في مصر مقطع فيديو يتضمن اشتباكاً بين طالبتين في واحدة من المدارس الدولية لتنهال إحداهما بالضرب على الأخرى وسط سلبية شديدة من باقي الطلاب، الذين صور بعضهم المشهد ورفعه على منصات التواصل الاجتماعي، ليحقق انتشاراً كبيراً، وهي الحادثة التي لن تكون الأخيرة، فهوس السوشيال ميديا والتريند وتحقيق أعلى نسب المشاهدة أصبح أحياناً بلا ضوابط وبلا أخلاقيات وفي بعض الأحيان يفتقر إلى الرحمة.
وبينما فريق يستمتع بمشاهدة مثل هذه المقاطع، فإن هناك فريقاً آخر يستنكر، ويرى أن السوشيال ميديا أفقدت الناس جزءاً من إنسانيتهم، وأن القادم سيكون أسوأ مع اعتياد الأجيال الجديدة هذا الوضع، واعتماد قطاع كبير منهم السلبية، بل وأحياناً تحقيق المنافع الشخصية من وراء مثل هذه الحوادث، بنشرها على صفحاتهم لترتفع أعداد المتابعين وتنخفض القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع.
تأثير المتفرج
يرجع الطب النفسي جزءاً من هذه الظاهرة إلى ما يطلق عليه "تأثير المتفرج"، وهي نظرية اعتمدها جون دارلي عالم النفس الأميركي عام 1968، بعد إجراء دراسات وأبحاث ارتبطت بهذا السلوك، وكان المرجع الأساس والدافع إلى القيام بهذه الأبحاث هي حادثة شهيرة وقعت في العام نفسه لفتاة تدعى كيتى جينوفيزا في نيويورك، إذ طعنها شخص واغتصبها وقتلها أمام عدد من الموجودين بالمنطقة.
وعلى رغم استغاثة الفتاة فإن أحداً لم يتقدم لإنقاذها من الأشخاص الموجودين في موقع الحادثة، الذين قدر عددهم بـ38 شخصاً، حتى إنه لم يتصل أحد بالشرطة إلا بعد وفاة الضحية بالفعل، ليثير الأمر وقتها حالاً غريبة تستدعي الدراسة والبحث من علماء النفس.
يفسر استشاري الطب النفسي، الأستاذ المساعد بجامعة الأزهر، محمد حمودة، الأمر "أثبتت التجارب العلمية أن هناك علاقة عكسية بين تقديم المساعدة وعدد المشاهدين لحادثة معينة، فكلما كان العدد أقل في مثل هذه المواقف كانت المساعدة أسرع والعكس صحيح، هذه الحالة يطلق عليها (تأثير المتفرج) عندما يكون هناك تجمع كبير أمام حادثة أو معركة فكل شخص ينتظر الآخر أن يقوم هو بالمساعدة، فتكون النتيجة أنه لا أحد يتحرك لتقديم العون بعكس لو كان من في الموقع شخص واحد أو عدد محدود من الناس".
ويضيف "في العصر الحالي ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي فإن تصوير الحادثة أصبح أولوية عند بعض الناس عن تقديم المساعدة، فالفيديو سينتشر ويصبح ترينداً، ويحقق كثيراً من المشاهدات والإعجابات، والشخص الذي نشره سيحقق شهرة فبدلاً من التفكير في المساعدة ومحاولة إنقاذ الضحية أو المصاب يفكر في تحقيق مكسب ونفع شخصي، بلغة الطب النفسي هذا الشخص يكون غالباً إما شخص سيكوباتي منتفع من ألم الآخرين أو من إيذائهم ومتلذذ بذلك، أو هيستيري يبغى الشهرة والحصول على مكاسب شخصية من وراء تصويره هذه المقاطع ونشرها".
يشير أستاذ الطب النفسي إلى أنه أحياناً يتعرض بعض الأشخاص لصدمة عندما يشاهدون حادثة، ولا يستطيعون التصرف فعلاً بسبب شكل من أشكال الصدمات النفسية، وهذه حالة تختلف عن السلبية أو التجاهل أو تحقيق النفع، وفي الوقت نفسه بعض الناس يخشى أن يأخذ رد فعل معيناً فيتسبب هذا في أذى له بأي شكل من الأشكال فيتجنب التدخل.
انتهاك الخصوصية
بعض الدول تمنع تصوير الحوادث، مثل الحوادث المرورية على سبيل المثال، وتوقع عقوبات على من يقوم بهذا الفعل، باعتباره ينتهك خصوصية الأشخاص، الذين قد يكونون في حال سيئة لا يرغبون في اطلاع الناس عليها، إضافة إلى كونهم في وضع لا يسمح لهم بالقبول أو الرفض.
في الوقت نفسه فإن كثيراً من وسائل الإعلام التقليدية أصبحت تعتمد نشر مثل هذه المقاطع المصورة سواء من طريق نقلها من السوشيال ميديا أو الحصول عليها من الشخص الذي صورها مباشرة نظير دفع مقابل مادي لتحقق هي الأخرى سبقاً، وتزيد عدد المشاهدات على منصاتها المختلفة على السوشيال ميديا.
وعلى رغم بعض التجاوزات وانتشار السلبية فإن تصوير بعض الحوادث كان له أثر كبير في اتخاذ إجراء معين، أو توقيع عقوبة على مقصر أو تعريف المجتمع بخلل معين يحتاج إلى علاج، ولولاه لما جرى اتخاذ إجراء حاسم في صالح المجتمع، وكذلك أحياناً يكون له دور كبير في مناطق الحروب والمواقع المنكوبة في تعريف العالم بأوضاع أو أحداث يمكن أن تسهم في تكوينهم وجهة نظر معينة.
قيم دخيلة
انتشار السلبية وعدم إغاثة من يحتاج إلى مساعدة هي من الأشياء الجديدة على مجتمعاتنا العربية التي اشتهرت دائماً بقيم نجدة المحتاج وإغاثة الملهوف، ولذلك يرى كثير من المتخصصين أن الانفتاح الكبير على الثقافات الأخرى، بخاصة بالنسبة إلى الأجيال الجديدة انتقل من طريقه كثير من سمات مجتمعات أخرى لا تناسبنا ولا تتوافق مع عاداتنا.
ويرجع بعضهم هذا الوضع إلى تكرار تعرض الشباب العربي للمحتوى العنيف على منصات السوشيال ميديا، والألعاب الإلكترونية والأفلام السينمائية، مما يخلق حالاً من تبلد المشاعر إزاء مشاهد العنف الحقيقية.
- "الجيل الصامت"، ويضم من ولدوا بين عامي 1928 و1945. وتعود تسمية هذا الجيل إلى كون أفراده من الملتزمين والتقليديين، وكانوا صامتين في الحقبة المكارثية عندما كان الخطر الشيوعي يهدد البلاد. وذكرت هذه التسمية أولاً في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1951 في مقال رئيس لمجلة "تايم" بالإشارة إلى الجيل الذي ولد خلال حقبة الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، بما في ذلك معظم الذي خاضوا الحرب الكورية.
ومن أبرز سمات هذا الجيل التواضع، وأبناؤه هم أيضاً من التقليديين. وهذا ما يفسر تسميتهم بهذه الصورة، وقد ترسخت أكثر التسمية عندما وصفهم المؤرخ والكاتب ويليام مانشستر بالانطوائيين والحذرين وبأنهم من ذوي الخيال المحدود، ويتسمون باللامبالاة والصمت وعدم المغامرة في الحياة. ونظراً إلى تطابق بعض سمات هذا الجيل مع تلك التي للجيل الأعظم، يوضعان في الفئة نفسها أحياناً. وفي بريطانيا تمت تسميته "جيل الغارات الجوية"، لأن الأطفال ترعرعوا فيه وسط تبادل إطلاق النار في الحرب العالمية الثانية.
"جيل طفرة المواليد"
- "جيل طفرة المواليد"، ويضم مواليد الفترة الممتدة بين عامي 1946 و1964، وهي مرحلة ترتبط بطفرة المواليد التي حصلت عقب الحرب العالمية الثانية. وظهرت هذه التسمية للمرة الأولى في قاموس "أوكسفورد" عام 1970. ففي الولايات المتحدة الأميركية حصلت زيادة كبرى في عدد المواليد بسبب الرغبة الشديدة بالإنجاب بعد الحرب. وبلغ عدد المواليد خلال تلك الفترة 76 مليون طفل. ويتمتع أبناء هذا الجيل بمجموعة من السمات التي تميزهم، بدءاً من كونهم يشكلون العدد الأكبر من الأشخاص في مختلف الأجيال. وقد أسهم عددهم بترك تأثير اقتصادي وسياسي كبير، بالمقارنة مع باقي الأجيال. وقد تميز أبناء هذا الجيل أيضاً بالوضع المادي الميسور والصحة والنشاط، إضافة إلى مستويات الدخل الفردي المرتفعة التي سمحت لهم بالتمتع بمزايا لم تُتح لآبائهم في الجيل الذي سبق.
- "جيل إكس"، يضم الفئات التي ولدت بين عامي 1965 و1980، أي في فترة الحرب الباردة وحقبة الصحوة الاجتماعية. وشهدت تلك الفترة أيضاً تفشي مرض "الإيدز"، والمطالبة بحقوق المثليين. وحظي مصطلح "جيل إكس" بشعبية واسعة بعد تناوله في كتاب "الجيل إكس: حكايات من أجل ثقافة متسارعة" لدوغلاس كوبلاند عام 1991. وبحسب الخبراء يتميز أبناء هذا الجيل بكونهم في حاجة مستمرة إلى الترفيه، وإلا فهم يشعرون بالملل كونهم ولدوا في فترة التلفزيون وألعاب الفيديو، وهذا ما يفسر حاجتهم المستمرة لمنتجات الترفيه مثل ألعاب الفيديو والأجهزة التي تشغل الموسيقى. ويعتبر الأهل الذين ينتمون إلى هذا الجيل أكثر انتظاماً في تربية أطفالهم، ونموهم الاجتماعي والثقافي. وبصورة خاصة يتميز الأفراد الذين ينتمون إلى هذا الجيل بالاستقلالية والاعتماد على الذات، خصوصاً أنه أول جيل نشأ على التلفزيون والتقنيات الرقمية من بداياتها. لذلك، يملك أبناء هذا الجيل مهارات تقنية متوسطة ويستخدمون التكنولوجيا بصورة أساس للعمل والتواصل.
وأجرت المدرس بقسم الاجتماع والاتصال والإعلام بالمعهد العالي للدراسات الأدبية بكينج مريوط، نسمة إمام حسين، دراسة على عينة قوامها 463 من الشباب في دول عربية عدة بعنوان "العلاقة بين استخدام المحتوى العنيف المقدم بالمنصات الرقمية وتأثير المتفرج"، ونتج من الدراسة المنشورة بالمجلة المصرية لبحوث الرأي العام أن غالب المبحوثين يفضلون مشاهدة المحتوى العنيف على منصات "يوتيوب" و"تيك توك" و"إنستغرام"، وأن 94 في المئة من العينة أفادوا بأنهم لن يتدخلوا للإنقاذ إذا شاهدوا موقفاً طارئاً أو حادثة، بينما أفاد 5.8 في المئة فقط بإمكانية التدخل لتقديم المساعدة، وأثبتت الدراسة أنه كلما زاد التعرض للمحتوى العنيف قل التعاطف مع ضحايا العنف وانخفض التدخل للمساعدة.
من الجيل الأعظم إلى جيل "بيتا" الذي يضم من يولدون في العام الحالي (2025) أجيال عديدة تعاقبت، وقد مرت بحقب عرفت فيها أزمات وتحولات كبرى على مختلف الصعد منها الثورة الرقمية والتكنولوجية. وكانت لذلك آثار واضحة على أبناء هذه الأجيال من نواحٍ عديدة. ومن بداية عام 2025 شهدنا نهاية جيل "ألفا" وبداية جيل "بيتا" الذي يشمل من سيولدون بين عامي 2025 و2039، وهو الجيل الثاني في الألفية الجديدة وفق ما أعلن الباحث وخبير السكان مارك ماكريندلي الذي كان قد وضع سابقاً مفهوم جيل "ألفا". وقد توقع في تدوينة له على وسائل التواصل الاجتماعي أن يشكل أفراد جيل "بيتا" نسبة 16 في المئة من سكان العالم، وأن يعيش عديد منهم ليشهدوا القرن الـ22، كما توقع أن يشكلوا نسبة 19 في المئة من القوى العاملة في العالم بحلول العام نفسه.
وبالعودة إلى الأجيال السبعة المتعاقبة في التصنيف الغربي قبل الوصول إلى جيل "بيتا"، يمكن القول إن الاختلافات الكبرى في سماتها لافتة بالفعل. وهي ترتبط غالباً بتلك المحطات المحورية التي في العالم في مراحل معينة. لذلك، من الممكن فهم كثير عن سمات كل من هذه الأجيال انطلاقاً من التواريخ والأحداث الكبرى التي ميزت الحقب التي ارتبطت بها. وبالنسبة إلى الخبراء، يشكل الأشخاص المولودون في إطار زمني واحد مجموعات لها وجهات نظر وقيم وأذواق وعادات متقاربة. ولعل ذلك يفسر إلى حد ما النظرة الخاصة التي لأبناء كل جيل إلى أولئك الذين ينتمون إلى جيل سابق أو جيل لاحق.
وتعليقاً على هذه الظاهرة تقول أستاذ علم النفس الاجتماعي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، سوسن فايد "هذه الأفعال هي ثقافة واردة علينا، ولا تنتمي إلى مجتمعاتنا وعاداتنا، لكنها انتقلت إلينا من المجتمعات الغربية بوسائل متعددة من بينها الأفلام ومواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى وجود قطاع من الجيل الجديد يُربى ويُطبع بالثقافة الغربية في كل المجالات من طريق المدارس الأجنبية بثقافاتها الواردة علينا، وفي الوقت نفسه هناك غياب كبير للثقافة المضادة المعنية بتأصيل القيم الخاصة بمجتمعاتنا والمسؤول عنها الإعلام والمدارس والجامعات والمؤسسات الدينية، فهناك حال من ثقافة الفراغ الذي للأسف يجري شغله بقيم وسلوكيات غريبة على مجتمعاتنا العربية".
وتستكمل فايد "السلبية أصبحت طاغية على مجتمعاتنا وكل شخص مشغول بهمومه ومشكلاته، ولا يرغب في التدخل في أمور خارج نطاقها، لكن على رغم كل شيء فلا يزال هناك قطاعات من الناس تتصرف بإيجابية في حال وجدت في موقع يحتاج فيه أشخاص إلى المساعدة والدعم، فالصورة ليست قاتمة تماماً".لكن أستاذ علم النفس تعود وتؤكد أن هناك جانباً آخر في مثل هذه الحالات "يتمثل في أن بعض مقاطع الفيديو التي نُشرت كان لها دور في التعريف بالموقف الذي حدث ولولاها لما اتخذ إجراء معين أو عوقب المقصر، وهكذا فالتصوير ذاته ليس الأزمة هنا، بل على العكس قد يكون مفيداً، لكن في الوقت نفسه لا بد من أن تكون الأولوية تقديم المساعدة أو إنقاذ الموقف".